يعد استقلال الجزائر في سنة 1962، مرحلةٌ تاريخية فاصلة لأهل البلاد بعد استعمار دام أكثر من 100 سنة راح فيها أكثر من “مليون ونصف شهيد”، لكن تعد مرحلة بناء الدولة آنذاك من أصعب المراحل التي مرت بها البلاد خاصة أنها امتازت بعدّة صراعات سياسية كان من نتائجها إما السجن أو تصفية المعارضين.

وقد كان أحمد بن بلة أول رئيس للجزائر ما بعد الاستقلال من (15 تشرين الأول/ أكتوبر 1963 إلى 19 حزيران/ يونيو 1965)، فهو يُعد من أبرز المناضلين من أجل استقلال البلاد عن الاحتلال الفرنسي، كما شارك في تأسيس “جبهة التحرير الوطني” في عام 1954، و عند اندلاع الثورة التحريرية اعتُبر رمزاً وقائداً لثورة أول تشرين الثاني/ نوفمبر.. وزعيمها الروحي، إلى أن انقلب عليه وزير الدفاع هواري بومدين الذي أصبح الرئيس الثاني للبلاد وقد امتدت فترة حكمه ما بين (1965 و1978) والتي انتهت بوفاته عن عمر ناهز 46 سنة، وتُعد وفاته بداية زعزعة استقرار وأمن الجزائر، خاصة وأن فترة الرئيس الثالث الشاذلي بن جديد، اتسمت بالتذبذب السياسي، فقد كانت السلطة محتكرة من قبل حزب “جبهة التحرير الوطني” وهو ما ضيّق على الحريات الفردية والعامة، مما ساهم في خلق هوّة بين المجتمع والسلطة السياسية آنذاك وصلت إلى درجة الصراع والمواجهة.

وبالتالي أدى إلى بروز خلاف بين ممثلي المنظومة السياسية والإدارة العسكرية على كيفية مواجهة الأزمة الاجتماعية، فتعددت الأحزاب المعارضة وخاصة منها الحركة الإسلامية التي حازت على شعبية كبيرة، وبالطبع إلى جانب أحزاب معارضة أخرى كلّها نددت بسياسة الدولة طالبينَ التغير الجذري لهذه المنظومة.

وكانت سنة 1988 نقطة فاصلة في تاريخ الجزائر فعلى إثر الحراك الشعبي والذي تدخل فيه الجيش لقمع المظاهرات، اتخذ الرئيس بن جديد قرار الانفتاح السياسي فأصدر دستور 5 حزيران/ يونيو 1989 والذي يلغي نظام أحادي الحزب والسماح بالتعددية الحزبية، ناهيك عن وعده بإجراء انتخابات بكل مستوياتها من الانتخابات البلدية وصولاً إلى الرئاسية.

وقد تم في البداية إجراء الانتخابات النيابية يوم 26 كانون الأول/ ديسمبر 1991، ولم تتوقع المنظومة السياسية آنذاك أن الحركة الإسلامية الممثّلة في “جبهة الإنقاذ” لها قاعدة جماهرية كبيرة مما جعلها تفوز بـ 188 مقعد من أصل 430 في الدور الأول، وهو ما لم يستسيغه النظام السياسي وخاصة المؤسسة العسكرية، التي باتت جزء لا يتجزأ من السلطة السياسية باعتبارها حارسة لها وهكذا بدأت ملامح “العشرية السوداء” تتجلى من خلال الصراع المسلح بين النظام والفصائل الموالية لـ”جبهة الإنقاذ” الإسلامية، وذلك في شهر كانون الثاني/ يناير 1992، بعد إلغاء السلطة لنتائج الانتخابات البرلمانية.

وفي إطار هذا الصراع المحموم تم اغتيال الرئيس الرابع للجزائر محمد بوضياف، أثناء إلقائه خطابه في دار الثقاف بعنابة 29 حزيران/ يونيو 1992. بالتالي يجد التساؤل هنا عن ملامح “العشرية السوداء” وتأثيراتها واستتباعاتها على الشعب الجزائري؟

ملامح الإرهاب خلال “العشرية السوداء”

إن انتشار الإرهاب في الجزائر كما ذكرنا أنفاً جاء نتيجةً للإلغاء نتائج الانتخابات، وهو ما أربك الأمن والسّلم الاجتماعي للمجتمع الجزائري، وهذا ما يحيلنا إلى أن هذه الجماعة قد اتّخذت من الإسلام وسيلة للتعبئة فهي لا تقيم تميزاً في تصوراتها وممارساتها بين الدّين والسياسة وهي بهذا تقوم بتسييس الدّين وتديين السياسة”.

تفجير بالقرب من “دار الصحافة” بالجزائر العاصمة عام 1996- “أ ف ب”

والحقيقة أن موضوع الحركات الإسلامية وإشكالية العمل السياسي من المواضيع التي وجب الاهتمام بها خاصة مع دخول الحركات الإسلامية مجال العمل السياسي الذي طرح عدّة إشكاليات حول موقع الإسلاميينَ كفاعلينَ سياسيين، لأن هذه الحركات تتسّم بسهولة الانتشار داخل الأوساط الاجتماعية والأهم من هذا اعتمادها على خطاب سياسي ممنهج من أجل التعبئة البشرية، لكن الأهم، سعيها لتبرير تدخّلها في السياسة، من خلال تأكيدها على أن الإسلام نظام عالمي، فليس المهم أن المجتمع يتكون من أفراد مسلمين بل المهم أن يعتمدوا في بنائهم الاجتماعي والسياسي على الشريعة الإسلامية.

وهنا بمعنى أدق السير نحو “أسلمة الدولة”، فنظرة هذه الحركات إلى نفسها كحركات اجتماعية وسياسية مبنية على الإسلام كدين ونظام إيديولوجي في الوقت نفسه ساهم في تعقيد هذه الظاهرة وتداخلها، إذ يختلط فيها الديني بالثقافي والاجتماعي بالسياسي.

لهذا يرى الباحثون أن الحركة الإسلامية هي حركة اجتماعية وسياسية وتعتبر بوجه عام ردود فعل لتغييرات بنائية في المجتمع ومن ثم تكون مرتبطة بمتغيرات أخرى مثل التحولات الاقتصادية والسكانية وبنية النظام السياسي ذاته.

وشهدت تلك الفترة سلسلة اغتيالات طالت عدداً من الصحفيين، وكان المغدور “الطاهر جاروت” أول صحفي يتم اغتياله رمياً بالرصاص في 26 أيار/ مايو 1993.

وأما أهم الأسباب التي تجعل علماء الاجتماع يتناولون الحركات الإسلامية على أساس أنها حركات اجتماعية وسياسية، هو إصرار هذه الجماعات على تفعيل القيم والصور التقليدية في عملية التغيير والبناء وما نقصده هنا أن الحركات الإسلامية تسعى إلى بناء نظام اجتماعي قائم على الإسلام وذلك بسبب عدة عوامل منها، “مسائل مثل الهوية والتحديث وميراث الثقافي والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والمشاركة السياسية والسيطرة الأجنبية ثقافياً وسياسياً“.

200 ألف ضحية

في المقابل، كانت من نتائج هذا الجموح نحو السلطة حصيلةٌ لا بأس بها من القتلى والجرحى وعلى سبيل الذّكر لا الحصر، وحسب معطيات رسمية جزائرية، أن حصيلة العمليات الإرهابية سنة 1995 بلغت 7562 عملية إرهابية، مقابل 5899 لسنة 1996، و2419 لسنة 1998، و2407 لسنة 2000.

أما بخصوص ضحايا هذه العمليات فنجد 13801 من القتلى والجرحى لسنة 1995، مقابل 10779 ضحية لسنة 1996، و7021 ضحية لسنة 1998، و3343 ضحية لسنة 2000.

وكان جلُّ الضحايا هم مواطنون عاديون ذنب بعضهم الوحيد أن لديهم من يعمل ضمن السلك العسكري وعلى سبيل الذّكر فقد تم تصفية 1400 فرد جزائري، رجالاً ونساء وأطفالاً وشيوخاً وذلك خلال ليلتَين من شهر رمضان سنة 1997 تزامناً مع الإفطار وقد عرفت هذه المجزرة بـ”مجزرة الرمكة”.

هذا فضلاً عن سلسلة الاغتيالات بحق عدد من الصحافيينَ وكان المغدور “الطاهر جاروت” أول صحفي يُغتال رمياً بالرصاص يوم 26 أيار/ مايو 1993، وقد تم في نفس السنة اغتيال ما يقارب 23 صحفي ينتمون إلى مؤسسات إعلامية مختلفة، فقد كانت الحصيلة الكلية لضحايا “العشرية السوداء” قد ناهز 200 ألف ضحية، ولم ينتهِ هذا الكابوس إلا بعد انتخاب الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، الذي أقرَّ عدداً من مراسيم العفو تحت مسمى “المصالحة الوطنية” والتي ساوت بين جميع الضحايا، وقوّضت انتشار قادة الجماعات الإرهابية الذين تحصّنوا بالجبال والمرتفعات هروباً من الملاحقات العسكرية.

الإرهاب في الجزائر ما بعد “العشرية السوداء”

رغم جهود المؤسسة العسكرية في الجزائر في مطاردة الإرهابينَ وتقويض نشاطاتهم، إلا أن هؤلاء استغلّوا أحداث “الربيع العربي”، خاصة في كل من تونس وليبيا لتعزيز قاعدة مقاتليهم من خلال استقطاب عناصر إرهابية من كلا البلدين، وقد تحصّنوا بجبل الشعانبي وجبل سمامة والمغيلة من تونس.

وهو ما حذا بكلا البلدين للتعاون من أجل مجابهة خطر الإرهاب المسمى بـ”تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” والذي ينقسم الى عدّة كتائب مثل كتيبة “جند الخلافة” وكتيبة “عقبة ابن نافع”، مما انجر عنه بعض الاغتيالات في تونس. هذا بالإضافة إلى جانب التفجيرات وحالات التقتيل بحق أفراد من الأمن والعسكر التونسي.

كما ومازالت الجزائر كما تونس أيضاً في محاولاتٍ لاجتثاث هذه الحركات المتطرفة، فمثلاً أعلنت “وزارة الدفاع الجزائرية” سنة 2022 قضائها على 20 إرهابياً واستسلام 5 واعتقال 14 آخرين وتوقيف 371 عنصراً داعماً للجماعات الإرهابية، فيما تم خلال عام 2021 القضاء على 23 إرهابياً.

صور العمليات التي نفذها الجيش الجزائري (وزارة الدفاع الجزائرية) ضد شبهة الإرهاب والمخدرات 2023- “الشرق الأوسط”

ومازالت الجهود والنضال مستمرّاً من كلا البلدين للحدّ من انتماء الشباب لمثل هذه الحركات الإسلاموية المتطرفة حتى لا تتنامَ أكثر، لكن في الاعتقاد أنه ما دام الوضع الاقتصادي والاجتماعي للشباب متأزم، فإن هذه الحركات ستستعملهم كبيادق لتحقيق أهدافها السياسية، فتونس والجزائر يعانيان هشاشةً على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

وبالتالي هذه الهشاشة أفرزت التباساً للهوية الوطنية والدينية في صفوف الشباب، والأصح اضمحلال هذه الهوية في ظل الأوضاع المربكة التي يعيشونها و يتعايشون في نطاقها، وهذا ما يفسّر عزوفهم عن الشأن السياسي عامة. فالانتماء إلى الدولة هو انتماء شكلي لا فعّلي.

وهنا يمكننا القول بأن فقدان الحسّ الوطني يدفع بالشباب إلى التطرّف والانحراف. لكن في المقابل فإن الدولة هي المسؤولة عن مثل هذه الجدالات والانحرافات في ظل عجزها عن توفير أُسس العدالة الاجتماعية والتأطير الشامل لهؤلاء الشباب، خاصة أمام ما نشاهده من صراعٍ للأحزاب والنُّخب على حيازة السلطة لخدمة مصالحهم دون الالتفات إلى المصلحة العامة وشعوبها، وأهمها الشباب كفاعلينَ اجتماعيينَ وسياسيينَ، عوض أن يكونوا فاعلينَ “جهاديينَ”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات