في ظل التصعيدات والمتغيرات العديدة التي تشهدها المنطقة، زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان القاهرة بعد قطيعة دامت لعدة سنوات. ووصل أردوغان، أمس الأربعاء، إلى مطار القاهرة الدولي في زيارة رسمية لمصر، هي الأولى له منذ أكثر من 11 عاماً. وعقد مع نظيره المصري مؤتمراً صحفياً عقب مباحثات جرت في قصر الاتحادية.

وتعد هذه الزيارة الأولى التي يقوم بها أردوغان إلى مصر منذ زيارته كرئيس للوزراء عام 2012، وتأتي بعد التقارب ورفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين مؤخراً لبحث تحسين العلاقات الثنائية وتطورات القضايا ذات الاهتمام المشترك.

وبحسب ما أعلنت الرئاسة المصرية، فقد أجرى السيسي مباحثات موسعة مع أردوغان لدفع الجهود المشتركة لتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، كما ناقشا العديد من القضايا والتحديات الإقليمية، خاصة وقف إطلاق النار في غزة وتنفيذ المساعدات الإنسانية للفلسطينيين في قطاع غزة الذي يشهد حرباً منذ نحو أربعة أشهر، حملت في طياتها تداعيات جمّة، فضلاً عن مخاطر اتساع رقعة الصراع لتمتد نيرانها إلى عموم المنطقة.

بالتالي، تأتي زيارة أردوغان لمصر للاتفاق على عدة ملفات وقضايا مختلفة، لكنها ذات اهتمام مشترك بين البلدين، خاصة ملف غاز البحر المتوسط، وليبيا، وجماعة “الإخوان المسلمين”.

خطاب السيسي وأردوغان

منذ عودة العلاقات بين مصر وتركيا على مستوى التعاون الدبلوماسي، تم تقييد أنشطة جماعة الإخوان العدائية تجاه مصر بشكل جزئي، ولكن ليس كليا، على الأراضي التركية، وهي من أهم القضايا الخلافية بين البلدين حتى الآن.

من زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمصر في 14 شباط 2024- “رئاسة الجمهورية المصرية”

وقال السيسي خلال المؤتمر الصحفي مخاطباً أردوغان: “لنفتح معاً صفحة جديدة بين بلدينا بما يعزز علاقاتنا ويضعها على مسارها الصحيح”، مما يدل على أن مصر تريد تحسين علاقاتها بالفعل مع تركيا، لكن على الأخيرة أن تكون جادة في هذا التقارب ويجب ألا يكون مجرد اصطفاف لمصالح مؤقتة، أي أن هذا التقارب يجب ألا يكون سياسة “براغماتية” كما تشتهر تركيا بهذه السياسة في علاقاتها الخارجية.

ونوّه السيسي إلى أن مصر حالياً الشريك التجاري الأول لتركيا في إفريقيا وتركيا تعد من أهم مقاصد الصادرات المصرية، مضيفاً “سنسعى معاً إلى رفع التبادل التجاري إلى 15 مليار دولار خلال السنوات القادمة”.

كما وقال السيسي في كلمته: “أود أن أشير إلى اهتمامنا بتعزيز التنسيق المشترك والاستفادة من موقع الدولتين كمركزي ثقل في المنطقة بما يسهم في تحقيق السلم وتثبيت الاستقرار ويوفر بيئة مواتية لتحقيق الازدهار”. أي أنه يتعين على البلدين خفض مستوى التوتر بشكل جدي في المنطقة، خاصة في المناطق التي تشهد توترات، ولا سيما الساحة الليبية، بجانب تقليل مستوى العدائية في بعض القضايا الأخرى، مثل ملف الإخوان.

كما وتطرق السيسي بشكل واضح إلى ضرورة مواجهة خطر الإرهاب والتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يفرضها الواقع غير المستقر في المنطقة، فضلاً عن ضرورة وقف إطلاق النار بقطاع غزة وتحقيق التهدئة في الضفة الغربية حتى يتسنى استئناف عملية السلام في أقرب فرصة وصولا لإعلان دولة فلسطين على حدود 1967.

إلى جانب تأكيد السيسي على ضرورة تعزيز التشاور حول الملف الليبي بما يساعد على عقد الانتخابات وتوحيد المؤسسة العسكرية، وأهمية التهدئة الحالية في منطقة شرق المتوسط والتطلع للبناء عليها وصولاً لتسوية الخلافات القائمة بين دول المنطقة ليتسنى للجميع التعاون لتحقيق الاستفادة من الموارد الطبيعية المتاحة. أي ملف شرق البحر المتوسط وغازه.

فيما اكتفى أردوغان في كلمته خلال المؤتمر الصحفي بالحديث عن سعادته بتواجده في القاهرة، وأن مستوى التعاون بين مصر وتركيا تم رفعه إلى مستوى مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى، بالإضافة إلى ضرورة رفع مستوى التبادل التجاري والاستثماري، ومن ثم الانتقال إلى التحدث عن الحرب في قطاع غزة بلغة “شعبوية” كالعادة، حيث قال: “ما يحدث في غزة من مأساة كان قد تصدر جدول أعمالنا اليوم ومن خلال الهجمات الإسرائيلية قد استشهد أكثر من 28 ألف فلسطيني كما أنه أصيب ما يقارب 70 ألف فلسطيني بريء وقد تم استهداف المساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات”.

وأضاف: “إدارة نتنياهو استمرت بسياسة الاحتلال والقتل والمجازر رغم ردود الفعل العالمية. وإيصال المساعدات إلى غزة يعتبر من أولوياتنا” مشيراً إلأى أنه “استطعنا أن ننقل أكثر من 700 مصاباً فلسطينياً مع المرافقين إلى تركيا… ولا يمكن أن نقبل بتهجير سكان غزة وتطهير القطاع من السكان كلياً ونقدر موقف مصر في هذا السياق. ومن أجل إيقاف إراقة الدماء في غزة سنظل على تعاون مع مصر وعلى المدى المتوسط فإن إعادة إعمار غزة وتضميد الجروح يتطلب العمل المشترك ونحن جاهزون لذلك”.

من الواضح أن أردوغان يدرك جيداً أنه لم يكسب من عدائه لمصر، من خلال تحالفاته المعادية مع أطراف سياسية وإسلاموية مشبوهة، سوى الخسارة والخصومة.

الغريب أن أردوغان لم يتناول أهم الملفات التي كان ينبغي أن يتحدث عنها مع الجانب المصري، مثل الملف الليبي وشرق البحر المتوسط ​​وغازه، إضافة إلى ملف الإخوان الذي يعد من الملفات البارزة لمصر. ومع ذلك، ظل ملتزماً بخطاباته التعبوية، والتزعم بأنه ينصر المسلمين والقضية الفلسطينية، حيث اتخذ اتجاه خطابه في المؤتمر الصحفي بأكمله عن غزة ونصرة الفلسطينيين فقط.

هذا ووقع السيسي وأردوغان عدداً من اتفاقيات التعاون المشتركة بين البلدين في قصر الاتحادية، كما وقعا على الإعلان المشترك حول إعادة تشكيل اجتماعات مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين مصر وتركيا.

ما دلالات زيارة أردوغان؟

وفيما يتعلق بزيارة أردوغان لمصر، يرى محللون أنه يسعى منذ نحو عامين إلى تحسين علاقاته مع دول المنطقة والخليج، خاصة الدول ذات الثقل الإقليمي مثل مصر، بعد أن أثار عداوة معها حول عدة قضايا حساسة لفترات امتدت لسنوات عديدة، لم يجني منها أردوغان سوى النبذ وكسب العداوة من دول المنطقة.

ومن الواضح أن أردوغان يدرك أيضاً أنه لم يكسب من عدائه لمصر، من خلال تحالفاته المعادية مع أطراف سياسية وإسلاموية مشبوهة، سوى الخسارة والخصومة، ولهذا سارع إلى المصالحة مع القاهرة، على الرغم من أنه وصف الرئيس السيسي بـ”الطاغية” في ظل الأحداث التي جرت في تموز/ يوليو 2014 في غزة. وقال أردوغان حينها إن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي “لا يختلف عن الآخرين. فهو نفسه طاغية”.

واتهم الإدارة المصرية بالعمل “معاً” إلى جانب إسرائيل ضد حركة “حماس” المدعومة بشكل أو بآخر من الحكومة التركية. وقال أردوغان إن “الإدارة في مصر ليست شرعية”.

وفي عام 2019، اتهم أردوغان السلطات المصرية بـ”قتل” محمد مرسي، بل وتعهد بمقاضاتها في المحاكم الدولية. لكن لم يتم تنفيذ أي من هذه الوعود والتهديدات وذهب أدراج الرياح. واليوم يزور أردوغان مصر، بعد سنوات عداء عديدة، ويريد إعادة العلاقات بأي شكل كان، والاتفاق على عدة ملفات.

كل هذه التغيرات في مواقف أردوغان، وتحديداً الإشادة بدور مصر المحوري في تهدئة الأوضاع في قطاع غزة، يشير إلى مدى حاجة بلاده إلى استعادة علاقتها مع مصر، خاصة وأن إخفاقات أردوغان وتراجع دوره في ملفات مهمة مثل القضية الفلسطينية بعد أحداث غزة تصر على ضرورة التنسيق مع مصر التي تخطو خطوات مهمة في خلق مقاربة سياسية للتهدئة بغزة، وبناء توافقات مهمة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، برعاية الولايات المتحدة.

كما يريد أردوغان أن تكون بلاده طرفاً أو شريكاً في منتدى غاز شرق المتوسط، الذي انعقد في القاهرة عام 2019، والذي تقوده مصر واليونان وإسرائيل وقبرص.

كيف ستتعاطى القاهرة مع أنقرة؟

في المقابل، فإن زيارة أردوغان لمصر قد تحدث انفراجاً جدياً في ظل المشهد الإقليمي، أي أن تتعامل القاهرة مع أنقرة بمرونة أكبر، مما يجعل فرص جماعة الإخوان في تركيا ضعيفة وتضعهم في زاوية ضيقة، بل من المتوقع أن تبدأ قيود كثيرة، كما حدث في الماضي عندما بدأت أنقرة مع القاهرة ما عُرف بالمحادثات الاستكشافية قبل نحو عامين وترتّب عليها إبلاغ القنوات المحسوبة على الإخوان بالحدّ من التغطية السياسية، وتناول الشأن السياسي المصري والاكتفاء بالشؤون الثقافية والاجتماعية، والتوقّف عن الهجوم والتنابذ.

أما بالنسبة لشرق المتوسط ​​والغاز الموجود فيه، فيرى مراقبون أن مصر لا تبدو عازمة على التحرك بشكل غير مدروس وقبل أن تعيد كامل حساباتها مع شركائها في ذات الملف، بل إن نهج مصر في هذا الأمر سيكون وفق المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، وبما لا يتعارض مع مصالح شركائها في المنطقة، بحسب ما قاله أيضاً، دبلوماسيون مصريون لصحيفة “الأهرام” المحلية في وقت سابق. فقد سبق ورفضت القاهرة اقتراحاً تركياً لترسيم الحدود البحرية يدعي منحها منطقة اقتصادية أكبر من تلك التي أتاحتها اتفاقية ترسيم الحدود مع اليونان، وهذا يعني أن المصالحة لن تغير معادلة التوازن القائمة في شرق المتوسط.

وفي الحديث عن ملف ليبيا، الذي يعتبر من الملفات الحساسة والتي تهم مصر بالدرجة الأولى، باعتبار أن استقرارها يعني الكثير لاستقرار مصر، فمن المرجح أن يتم التوصل إلى تفاهم ما بين القاهرة وأنقرة، بما يضمن الاستقرار في ليبيا ومصالح البلدين في الوقت ذاته.

لكن في العموم، ستبقى خطوات مصر تجاه علاقاتها وتعاونها مع تركيا في نطاق الحذر والدراسة الطويلة والمدروسة بدقة والبحث عن المشتركات وبناء سياسة التعاون والتوافق مع دول المنطقة، وعدم الدخول في أي عداوة أو خصومة، فسياسة القاهرة دفاعية وتحمي مرتكزاتها ومصالحها الجيواستراتيجية حتى النهاية دون تنازلات أو حتى قبول بضغوط، على عكس الطرف الآخر (تركيا) الذي يتبع سياسة “براغماتية” طوال الوقت مع الدول الأخرى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات