مع الحادث الإرهابي الذي تبناه تنظيم “داعش – خراسان” في روسيا، لا بد من إعادة النظر إلى تاريخ حافل من التعاطي الرجعي مع الإسلام وتحويله إلى عدو في روسيا. بمعنى أصح ظل المسلمون في الذهن والعقل السياسي الروسي “مشكلة” ينبغي إداراتها بشكل أو بآخر من خلال القبضة الأمنية والاستخبارية، الأمر الذي لم يختلف في روسيا القيصرية أو روسيا السوفيتية. 

ومن ثم، ينبغي القول إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي هو امتداد للسياسات القيصرية ويحمل الميراث السوفييتي الأمني الموغل في توحّشه وتعقيداته الأمنية راكم العداوات ذاتها وفاقمها من خلال انخراطه في الشرق الأوسط بليبيا وسوريا، لكنه مع كل ذلك يستفيد من صعود “داعش” الذي يوفّر لها حاضنة للنمو والنشاط والتموضع بتوطيد سياساته الأمنية وإحكام قبضته في الحكم.

إذ إن بوتين الذي امتعض وسخر من تحذيرات الولايات المتحدة بشأن هجوم محتمل تدبر له “داعش”، وذلك على طريقة الأفلام التقليدية التي يظهر فيها البطل بمقدوره الصعود بين تخوم المرتفعات ورؤية الجميع وتحقيق نجاحات سحرية مبهرة، لا يختلف في مواقفه السابقة عندما نفذ التنظيم الإرهابي هجمات ضد روسيا، سواء التي طاولت السفارة في كابل، قبل أعوام، أو عندما تم إسقاط طائرة روسية في مصر، حيث استفاد بوتين من تلك الهجمات في تعزيز سياساته الأمنية وفرض قبضته وعدم انزياح الملف الإسلامي سواء كان متشدداً وحركياً أو المسلمين العاديين في الروس من موقعها كـ”أزمة”. وفي كل الأحوال يتسبب ذلك في تنامي النبرة العدائية والخطاب الهجومي ضد روسيا لدى الجهاديين.

هجمات “داعش” في روسيا

وفي إطار ذلك، لا يمكن تجاهل أن الجمهوريات السوفيتية السابقة تبدو حاضنة قوية ومصنعاً لا ينفذ لتعبئة العناصر التي تلتحق بالتنظيم الإرهابي “داعش”، وذلك وفق ما رصد تقرير مركز “صوفان” الأميركي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية، وقال عام 2017 وهو المعنى بالشأن الجهادي وقضايا التطرف، أن تلك المناطق التي تعاملت معها روسيا الشيوعية بقمع وعنف شديدين تشهد موجات هائلة من الالتحاق بـ”داعش” بخلاف المناطق الأخرى، كما أنه في العام 2015، أعلن المسلحون في بعض المناطق الولاء التام للتنظيم الإرهابي وقد شكلوا ما عرف بـ”ولاية القوقاز” كفرع مثله مثل “ولاية خراسان”.

A view shows the Crocus City Hall concert venue following Friday’s deadly attack, outside Moscow, Russia, March 23, 2024. Sergei Vedyashkin/Moscow News Agency/Handout via REUTERS ATTENTION EDITORS – THIS IMAGE HAS BEEN SUPPLIED BY A THIRD PARTY. MANDATORY CREDIT.

وفي هذا العام، وقعت حوادث إرهابية مثل انفجار طائرة روسية على متنها 224 شخصاً بالقرب من مدينة شرم الشيخ المصرية، وقضى في الهجوم كامل ركاب الطائر. وقبل نحو عامين، تم قتل عدة أشخاص في هجوم لتنظيم “داعش-خراسان” على السفارة الروسية في كابل.

هنا، مسار العلاقة المتوتر بين الجهاديين والنسخة الأخيرة المتشددة ممثلة في “داعش”، من جهة، وروسيا، من جهة أخرى، يجعل التفجير الأخير استكمالاً للمسار لكنه يكشف عن طبيعة سياسات بوتين الذي لا يخرج عن طوق الإدارة الأمنية ويواصل العنف في مقابل العنف المضاد، غير أنه إذ يفعل ذلك فإنما من بوابة تشكيل أيديولوجيا الرعب وعولمة الخوف حد الهلع، حتى يتمكن من فرض نفوذه وعدم فتح تساؤلات عن تصفية المعارضة داخل روسيا وإسكات الخصوم بوحشية وتعسف وموتهم في ظروف غامضة ترقى لشبهة القتل العمد أو مغامراته الخارجية كما في أوكرانيا وتصعيد العداء للغرب. 

وهنا يلح التساؤل بخصوص تجاهل وسخرية بوتين من نصيحة واشنطن بشأن وجود مخطط لاستهداف مدنيين واحتمالية وقوع عمل إرهابي وقد وصف تلك النصحية بـ”الاستفزازية”: فهل كان مقصوداً لأغراض سياسية وبراغماتية كما سبق لإيران وفعلت ووقع حادث كرمان؟

تمثل أفغانستان مركزاً حيوياً لنشاط “داعش” ولاية خراسان والذي يبدأ بمهام عديدة في آسيا ويضطلع بعمليات إرهابية في إطار خصومته مع عدة قوى إقليمية كما مع تنظيمات أخرى قائمة سنية متشددة، لا سيما في ظل التنافس على قاعدة الجهاد العالمي. فاحتدم التنافس بين “داعش” و”القاعدة”، كما بين “داعش” و”طالبان” تحديداً بعد وصول الأخيرة للحكم في كابل. 

وتقف “داعش” على عداء مع روسيا وإيران. ومن الناحية العقائدية هناك توترات قائمة مع حكم الملالي. غير أن روسيا تفاقم عدة أمور العلاقة بينهما لا سيما مع العلاقات المتنامية بين موسكو وحكام كابل الجدد. ذلك ما يجعل التنظيم الإرهابي يتحرك بأقصى سرعة ويحقق ضربات مؤلمة في عقر دار القيصر الروسي ويتسلل إلى مخدعه ليمنح هذا الكابوس الدموي وحتى يفيق منه يكون كمن يحصد الندم والحسرة بعد الغطرسة والتعالي والشعور بالتفوق. فهناك حقيقة مؤلمة وقعت وهي موت نحو 140 مدنياً في حفل موسيقي نتيجة تقدير بوتيني خاطيء عمد إلى تجاهل معلومات استخبارية أميركية وصفها بـ”الاستفزازية”.

بدايات بروز “داعش – خراسان”

برز الفرع الخراساني للتنظيم الإرهابي عام 2015، وذلك “على يد أعضاء ساخطين من “طالبان”، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز” والتي توضح أن منحنى هبوط التنظيم من ناحية الأعضاء وعدد المقاتلين بدأ مع عام 2021، وقد بلغ نحو ألفي مقاتل، نتيجة للضربات الجوية الأميركية بالتعاون مع الكوماندوز الأفغانية.

فيما تزامن صعود التنظيم للواجهة مجدداً مع وصول حكام كابل الجدد للسلطة في أفغانستان، حيث وقع تفجير انتحاري في آب/ أغسطس من العام ذاته، قضى فيه 13 جندياً أميركياً ونحو 170 مدنياً. ومن هنا، رفع التنظيم حمى المنافسة والصراع بينه وبين “طالبان” وبدأ يبدو وكأنه معضلة أمنية تواجه الحكام الجدد وتبدو اختباراً لفرض سيطرتهم الأمنية وتحقيق الاستقرار.

هناك صعود للذروة أخذ في الانحناء لأعلى منذ بداية تحسن العلاقة بين “طالبان” وروسيا التي ضمت لديها ملحق عسكري من كابل، بما يعزز شرعية الحكم في أفغانستان لتنظيم سني آخر متشدد وصل للتمكين السياسي بينما يعاديه “داعش” وينفذ ضده هجمات.

بحسب وسائل إعلام روسية فالمشتبه بهم في الحادث الإرهابي، هم من إحدى البلدان التي وصفها التقرير الصادر عن مركز الأبحاث الأميركي ضمن حواضن “داعش”، وكانت ضمن الجمهوريات السوفييتية قبل تفككها، وهي طاجيكستان في آسيا الوسطى  وتقع على الحدود مع أفغانستان. 

وهذه الخريطة التي ينتمي لها الإرهابي المتهم لها اعتبارات تاريخية وديمغرافية تجعل لديه مظلومية ورغبة انتقامية تنشط وتحفز داخله العداء ضد روسيا، للحد الذي يصل لتنفيذ مجزرة دموية بهذه الوحشية، وقد زعم بيان منسوب لزعيم التنظيم بأن الحادث أسفر عن مقتل أو جرح ما لا يقل عن 300 شخص.

بسبب العلاقة بين روسيا و”طالبان”؟

ونقل موقع “الحرة”، كولين كلارك من “مركز سوفان” وهو مجموعة بحثية مقرها واشنطن قوله: “ركز تنظيم الدولة الإسلامية-ولاية خراسان اهتمامه على روسيا على مدى العامين الماضيين وتضمنت دعايته مراراً انتقاداً لبوتين”. فضلاً عن ما قاله مايكل كوغلمان من “مركز ويلسون” الذي مقره واشنطن إن “تنظيم الدولة الإسلامية-ولاية خراسان وقال هو الآخر أن التنظيم الإرهابي يرى بأن روسيا متواطئة في أنشطة تضطهد المسلمين باستمرار”. 

وأضاف أن التنظيم يضم أيضاً بين أعضائه عدداً من المسلحين القادمين من آسيا الوسطى الذين لديهم مظالمهم الخاصة حيال موسكو.

في المحصلة، يمكن ترتيب المشهد الدرامي والدامي على هذا النحو، هناك صعود للذروة أخذ في الانحناء لأعلى منذ بداية تحسن العلاقة بين “طالبان” وروسيا التي ضمت لديها ملحق عسكري من كابل، بما يعزز شرعية الحكم في أفغانستان لتنظيم سني آخر متشدد وصل للتمكين السياسي بينما يعاديه “داعش” وينفذ ضده هجمات، ويقوم بالتشنيع ضده باعتباره انحرف عن مبادئه “وتاريخ الصراع الأفغاني السوفييتي”، وقبل الوصول للذروة في موسكو، بدأت إرهاصات في المركز المشتعل بمخاض كبير، حيث وقع انفجار مدو بقندهار بالتزامن أو بالأحرى قبل حادث موسكو وبلغ عدد القتلى نحو 20 قتيلاً.

على ما يبدو أن بوتين يسعى لتخفيف ضغوطه الداخلية وأعبائه من خلال تحويل الحادث لسياق صراعه مع الغرب والولايات المتحدة-“رويترز”

وفي أعقاب الحادث الإرهابي بموسكو، صرح الناطق بلسان الخارجية الأفغانية، عبد القهار بلخي، بأن بلاده “تدين بأشد العبارات الهجوم الإرهابي الأخير في موسكو وتعتبره انتهاكاً صارخاً لجميع معايير وقيم حقوق الإنسان”. وقال”يجب على دول المنطقة اتخاذ موقف منسق وواضح وحازم ضد مثل هذه الأحداث التي تستهدف زعزعة الاستقرار الإقليمي”.

بوتين يستثمر في الهجوم الإرهابي

وبالعودة للموقف البوتيني الذي لا يبدو غامضاً بقدر ما هو براغماتي، فإن الهجوم الذي يماثل ما جرى في الشيشان في فترة حكمه الأولى، كان وسيلة تعزز ديمومة الحكم بآلياته الأمنية والقمعية الاستبدادية، وهو الحادث الذي انتهى بتصفية دموية لمن وصفتهم موسكو بـ”الانفصاليين”. فيما يظل رمضان قديروف عنواناً لسياسة استنساخ سياساته في المناطق التي يطوقها بنفوذه عبر وسطاء ولاءهم له وبمثابة أذرع أمنية وعسكرية له سواء ضد خصومه أو بالخارج كما ظهر عند غزو روسيا لأوكرانيا كانت القوات التابعة لقديروف في مقدمة قطار الحرب.

وعلى ما يبدو أن بوتين يسعى لتخفيف ضغوطه الداخلية وأعبائه من خلال تحويل الحادث لسياق صراعه مع الغرب والولايات المتحدة على خلفية الحرب في أوكرانيا، حيث إنه يدور بين التلميح والتصريح بأن هناك روابط بين منفذي الحادث وكييف.

وقال جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وفق موقع “روسيا اليوم” الرسمي، إن المسلحين اعتزموا بعد هجوم “كروكوس” الإرهابي عبور الحدود بين روسيا وأوكرانيا، كما أكد أنه كانت لديهم صلات ذات علاقة على الجانب الأوكراني. 

وذكرت المخابرات الروسية في بيان أنه تم التخطيط لهذا الهجوم الإرهابي بعناية وتم وضع الأسلحة والذخيرة في مخبأ معد مسبقاً، علماً أن أحد المشتبه بهم في هجوم “كروكوس” الإرهابي الذي عرف عن نفسه بأنه رجب علي زاده قال أثناء الاستجواب إنه ألقى السلاح مع شركائه في طريقه إلى مقاطعة روسية قرب الحدود الأوكرانية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات