في عالم السياسة العالمية، حيث تتغير التحالفات وتشتد المنافسات، تتبلور الزيارة التي تبدو غير ضارة إلى صبغة المواجهة، فمع تنفيذ أول زيارة رئاسية فرنسية إلى منغوليا، تتردد أصداء همسات مناورة استراتيجية ودوافع خفية عبر أروقة السلطة. 

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصل يوم الأحد الماضي إلى منغوليا في زيارة دولية قصيرة هي الأولى لرئيس فرنسي إلى هذا البلد الواقع بين الصين وروسيا،  في زيارة رمزية ولكنها تاريخية تهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية فيما يتعلق بالتحول البيئي والزراعة والغذاء الزراعي والأمن المدني.

ضمن المشهد الجيوسياسي الغامض، تثار التساؤلات عمّا إذا كانت هذه الزيارة التاريخية مجرد لفتة دبلوماسية أو ضربة استباقية محسوبة ضد روسيا والصين، وهي خطوة تهدف إلى إعادة رسم خطوط القوة والتأثير على المسرح العالمي، خصوصا أنها أتت بعد عقد قمة “مجموعة السبع” في اليابان الجمعة الفائت.

قفزة تاريخية

استجابة لرغبة منغوليا في تنويع شراكاتها وتقليل اعتمادها على جيرانها روسيا والصين، أجرى ماكرون مباحثات في أولان باتور مع الرئيس المنغولي أوخنا خورلسوخ، ثم التقاه مجددا على العشاء، كما التقى برئيس الوزراء المنغولي لوفسان تامسراي اويون إردين. 

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارة إلى منغوليا - إنترنت
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارة إلى منغوليا – إنترنت

المباحثات تناولت قضايا الطاقة، فعلى المستوى الثنائي، تعتقد باريس أن هناك إمكانيات كبيرة جدا للتعاون، لأن منغوليا تعتمد بنسبة 90 بالمئة على الفحم لتوليد الكهرباء. ومع ذلك، فهي أيضا واحدة من البلدان ذات أعلى إمكانات الطاقة المتجددة في آسيا، مما يسمح بفرص كبيرة للتعاون بين البلدين في هذا المجال.

منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/فبراير 2022، كثّفت فرنسا دبلوماسيتها مع الدول التي لم تدينها صراحة ومن بينها منغوليا. حيث تسعى باريس إلى تخفيف القيود المفروضة على جيران روسيا، وفتح الخيارات أمامهم، وبالنسبة لمنغوليا فالفرصة متاحة خصوصا أن 86 بالمئة من إجمالي صادرات منغوليا تحتكرها الصين، ونصفها من الفحم.

زيارة الرئيس الفرنسي إلى منغوليا وتوقيتها تحمل لحظة محورية في التاريخ الدبلوماسي، هذه الخطوة غير المسبوقة تشكل ثقلا في الأهمية، إذ ترمز إلى فتح فصل جديد في العلاقات الثنائية. ومع ذلك، تحت سطح الشكليات الدبلوماسية، فإن هذه الزيارة عبارة عن حركة شطرنج محسوبة في لعبة قوة أكبر بعد أن رفضت موسكو وبكين الوصول إلى حوار مع الدول الغربية وخصوصا الاتحاد الأوروبي.

علاقة حادة بين منغوليا وروسيا

تاريخيا حافظت منغوليا على علاقات وثيقة مع جيرانها، روسيا والصين، إلا أن وصول الرئيس الفرنسي في هذه الرحلة الرمزية يعني أن هناك رغبة محتملة في إعادة ضبط ميزان النفوذ في المنطقة، إذ تعد زيارة ماكرون خطوة محسوبة لإعادة تشكيل التحالفات، وترسيخ فرنسا كلاعب رئيسي في المناورات الجيوسياسية في الشرق.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارة إلى منغوليا - إنترنت
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارة إلى منغوليا – إنترنت

الغزو الروسي لأوكرانيا تسبب في تخوف العديد من المنغوليين من عواقب العلاقات التاريخية والاقتصادية القائمة بين روسيا وبلادهم، إذ إن منغوليا لا تزال في سياقات اللغة الروسية يشار إليها باسم “الجمهورية السادسة عشرة” من “الاتحاد السوفياتي” السابق مما جعل الكثيرون في البلاد يتماهون مع الالتزام الأوكراني بالاستقلال عن روسيا. كما يتضح من تسمية “الجمهورية السادسة عشرة”، فإن هذا الاستقلال لا يزال في كثير من الأحيان غير معترف به من قبل الروس.

منذ أول انتخابات ديمقراطية في أعقاب الثورة الديمقراطية التي قادها الطلاب في 1989-1990، أنشأت منغوليا نظاما من العلاقات الدولية واسعة النطاق. ففي الوقت الذي تحافظ فيه منغوليا على “شراكات استراتيجية” مع جارتيها روسيا والصين، اتبعت أيضا سياسة “الجار الثالث”، وحافظت على علاقات قوية مع الولايات المتحدة ودول “الناتو”، بما في ذلك زملائها الأعضاء السابقين في حلف “وارسو”.

في 25 آذار/مارس الفائت، تجمع متظاهرون أمام السفارة الروسية في منغوليا، مطالبين السفير الروسي في منغوليا بمغادرة البلاد، وذلك بعد أن أفادت تقارير بأن القوات الروسية كانت مكونة بشكل غير متناسب من جنود من أفقر جمهوريات الاتحاد الروسي “العرقية”. 

منغوليا تعد بؤرة ديمقراطية محصورة في شمال شرق آسيا، تتعرض لضغوط متجددة من جيرانها روسيا والصين، للتخلي عن استقلالها وتشكيل مثلث من التعاون المناهض للغرب في أعقاب الحرب في أوكرانيا، حيث تتبع الدولة بإصرار طريق الحياد، إلى جانب سياسة التنويع الاقتصادي المصممة للحفاظ على ثقافتها الفريدة واستقلالها الحديث نسبيا.

منغوليا حريصة على إبعاد نفسها عن موسكو وبكين

علاقة منغوليا بالصين معقدة بسبب أن جزءا كبيرا مما كان تقليديا منغوليا أصبح الآن “منطقة ذاتية الحكم” في الصين تحت اسم “منغوليا الداخلية”، والذي ولّد أنشطة للجماعات الانفصالية في المقاطعة.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارة إلى منغوليا - إنترنت
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارة إلى منغوليا – إنترنت

خلال شباط/فبراير الفائت، اعتقد البعض أن منغوليا في الواقع قد اختارت بالفعل الخيار الصيني الروسي، فبعد أربعة أيام على الغزو الروسي لأوكرانيا وقّعت منغوليا مذكرة تفاهم لصفقة خط أنابيب الغاز، حيث سيزيد خط الأنابيب هذا من اعتماد منغوليا على روسيا ثم الصين.

كدولة غير ساحلية، تم الكشف عن ضعفها أمام الصين من خلال إغلاق الحدود الصينية لفترات طويلة بسبب فيروس “كورونا”، مما أدى إلى إبطاء الزيادة المخطط لها في صادرات الطاقة المنغولية إلى الموانئ الصينية بسبب تمكينها من خلال شبكة من خطوط الشحن الجديدة التي من شأنها أن تقلل من أوقات الرحلات.

بقدر ما سعت منغوليا إلى رسم مسارها الخاص على مدى العقود الثلاثة الماضية، كانت الجدران تغلق أمامها بسبب الشراكة الإجبارية مع الصين وروسيا. لكنها ترى مؤخرا أن استقلالها مهدد بشكل متزايد مع تقارب روسيا والصين.

بينما تطأ القيادة الفرنسية الأرض المنغولية، تبرز التكهنات بأن هذه المناورة الاستراتيجية قد تكون ضربة استباقية محسوبة ضد قوى روسيا والصين، والهدف هو تعطيل التحالفات الإجبارية لبكين وموسكو، وإقامة شراكات جديدة، وتغيير ميزان القوى وتأكيد مكانة فرنسا على رقعة الشطرنج العالمية.

بينما يتصارع العالم مع التحالفات المتغيرة وديناميكيات القوة العالمية، بات من الأهمية لدى الاتحاد الأوروبي التعامل مع هذه التحولات الجيوسياسية بالانفتاح الدبلوماسي لكسب أهمية تمتد إلى ما هو أبعد من حدودها. إذا كانت هذه الزيارة تمثل بالفعل ضربة استباقية ضد روسيا والصين، فإنها تنطوي على إمكانية إعادة رسم خطوط القوة والنفوذ في المنطقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات