لا يزال وقع عملية التمرد التي نفذتها جماعة مرتزقة “فاغنر” الروسية في الرابع والعشرين من حزيران/يونيو الماضي، يُسمع صداه حتى الآن، إذ يرى الكثيرون أن تداعيات الحادثة لن تنحصر بمجرد ملاحقة زعيم “فاغنر” ‏يفغيني بريغوجين، أو تسوية الأمر معه من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث يعتقد الكثير منهم أن ما حدث قد زعزع مكانة بوتين بشكل غير مسبوق، مما قد يمتد ليحفّز جماعات أخرى للتمرد على سلطة موسكو.

فنتيجة لذلك، قد تتجه روسيا نحو اضطراب داخلي سوف يشمل جولة جديدة من الانفصال من جانب الجمهوريات المكونة للدولة مثلما حدث في عام 1991، وهو ما يتعين على صانعي السياسات في واشنطن وعواصم العالم الحر الأخرى الاستعداد لمثل هذا الاحتمال، كما يرى دان نيجريا كبير مديري “مركز الحرية والازدهار” بـ “المجلس الأطلسي” في تقرير نشرته مجلة “ناشيونال إنتريست” الأميركية حديثا.

ذلك متوقع خصوصا في ظل عدم تحقيق بوتين للشعب الروسي ما كان يتوقعه منه؛ فبعد 24 عاما من حكم بوتين، ما تزال روسيا متخلفة كثيرا عن أوروبا في مجالي الحرية والازدهار، وذلك بينما تزداد تخلفا الآن، ففي حين كان يُنتظر منه إحداث نقلة في الواقع الروسي؛ يطلب بوتين الآن من الروس أن يموتوا في حرب ضد دولة مسالمة شقيقة وأن يعانوا المزيد من الحرمان نتيجة العقوبات الاقتصادية الخارجية، يقول نيجريا.

هكذا سيؤدي ضعف بوتين لانفصال الجمهوريات الروسية

علاوة على ذلك، يشير نيجريا الذي عمل بوزارة الخارجية الأميركية عضوا بمكتب تخطيط السياسات التابع لوزير الخارجية، أن بوتين لم يحقق للشعب الروسي ما كان يتوقعه منه، إلى أن بوتين لا يحظى برضى الزمرة الفاسدة التي تسيطر على مقاليد السلطة الأمنية، والعسكرية، والاقتصادية؛ فقد حوّلت حرب أوكرانيا روسيا إلى دولة منبوذة، في حين عانى معظم تلك الزمرة من العقوبات وقيام دول العالم الحر بتجميد أرصدتهم.

على هذا الأساس، يبدو بوتين ضعيفا، فبينما يواجه خسارة في أوكرانيا، بعد أن كان الجيش الروسي يُصنّف بأنه الثاني عالميا، لم يتمكن من معاقبة قائد “فاغنر” بريغوجين ومتمرديه، عندما استولى مرتزقته على أحد المراكز العسكرية الروسية الرئيسية دون إطلاق طلقة واحدة، حيث انتظر العديد من القادة العسكريين الروس وراقبوا قبل أن يختاروا الاصطفاف إلى جانب نظام الحكم.

هذا الجو الذي تعيشه روسيا، من المرجح بحسب نيجريا -الذي عمل بوزارة الخارجية الأميركية عضوا بمكتب تخطيط السياسات التابع لوزير الخارجية- أن يؤدي إلى تشجيع المزيد من تحديات السلطة، وربما من جانب رجل عسكري آخر، أو من خلال النزعة الانفصالية المتجددة بين الجمهوريات الروسية.

تعليقا على ذلك، يقول الخبير بالشؤون الأوكرانية وأوروبا الشرقية محمد فرج الله، لموقع “الحل نت”، إن تمرد “فاغنر” كشف المستور وأظهر روسيا ضعيفة من الداخل كما هي ضعيفة من الخارج، فخارجيا أثبت الجيش الأوكراني تدمير أسطورة الجيش الروسي الذي كان يجري الحديث عنه بأنه ثاني أقوى جيش عالميا.

التمرد أثبت بحسب فرج الله، أن موسكو هشّة من الداخل. مضيفا، أن احتلال “فاغنر” لمدينتين روسيتين بأقل من 24 ساعة وتوجهها نحو العاصمة يدل على عدة نقاط؛ أولها أن الصراع داخل الدول العميقة في روسا قد خرج للعلن، كما يؤكد ثانيا، أن “فاغنر” لم تكن وحدها بل هناك من ساعدها في الحفاء بعبور الحدود والاستيلاء على القواعد العسكرية ما يثبت بأن هنالك جنرالات كثر ينتظرون سقوط بوتين

الخبير بالشؤون الأوكرانية وأوروبا الشرقية يردف، أن ما حدث قد أضرّ هيبة بوتين، فالضربة الآن من الداخل بخاصة وأن هناك طائرات روسية أُسقطت بسلاح روسي، لافتا إلى أنه من المؤشرات المهمة فيما حدث بتمرد “فاغنر” أن الشعب الروسي قد استقبل منفّذ التمرد قائد “فاغنر” يفغيني بروغجين، بالترحاب وودعه كذلك بذات الطريقة، وهو ما يعني أن هناك استياء شعبي من سلطة بوتين.

محاولة أولى ستؤدي لإسقاط بوتين

فرج الله يبيّن، أن ما يحدث هو وجود صراع على خلافة بوتين وقد ظهر هذا الصراع إلى العلن، فما حدث كان عبارة عن محاولة أولى لقلب نظام الحكم ضد بوتين ومع أنها لم تنجح بنسبة 100 بالمئة،‎ إلا أنها بعثت برسائل كثيرة وكشفت مواطن الضعف.

أهلي روس يستقبلون مرتزقة “فاغنر” أثناء عملية التمرد ضد القيادة العسكرية الروسية/ إنترنت + وكالات

إلى ذلك يوضح فرج الله، أن جنرالات الظل تابعوا هذه المحاولة وراقبوها ودرسوا نقاط الضعف ليتجنبونها في إعادة الكرة، بينما المتمردون على روسيا ظهروا أكثر وبدأوا ينفذون عمليات داخلية وكل هذا يشير بأن الصراع على السلطة قد بدأ، ولكن من الواضح أن المتآمرين على بوتين والراغبين بالانفصال لم يصلوا إلى سيناريو نهائي حول كيف سيكون مستقبل روسيا بعد بوتين. 

أخيرا يقول فرج الله، نعتقد أن الأمر يشبه كثيرا ما حدث في الحرب العالمية الثانية عندما خطط مجموعة ضباط لاغتيال هتلر وفشلت الخطة، تبعها سقوط هتلر نفسه، وذات الأمر يعود الآن، فشل التمرد الأول ضد بوتين، لكنه كشف نقاط وأمور كثيرة ستحسم المعادلة في الوقت القريب.

بالعودة إلى نيجريا، يقول إنه في العام 1917 كانت الحركات الانفصالية بروسيا قوية لكنها كانت غير ناجحة في نهاية المطاف عندما تعرضت روسيا للهزيمة في الحرب العالمية الأولى، وأصبح نظام الحكم القيصري الفاسد والفاشل لا يحظى سوى بقدر ضئيل من التأييد الشعبي.

لكن في العام 1991 كانت الحركات الانفصالية ناجحة عندما تمكنت 15 جمهورية من بينها أوكرانيا، وجمهوريات البلطيق، وكازاخستان في الانفصال بعد هزيمة “الاتحاد السوفييتي” في حرب أفغانستان وبدأ يفشل اقتصاديا. 

لذلك فإن خسائر روسيا الجسيمة في الأرواح والأموال بحرب أوكرانيا، والعزلة والعقوبات من جانب العالم الحر، وضعف السلطة المركزية في موسكو، يمكن أن تؤدي إلى خلق ظروف من المرجح أن تؤكد فيها الاتجاهات الانفصالية نفسها مرة أخرى، وخاصة أن نسبة احتمال مقتل أفراد الأقليات الروسية في أوكرانيا تزيد ثلاثين مرة على نسبة القتلى من الروس.

روسيا مهيأة للانفصال

نيجريا لفت إلى أن، هناك 21 جمهورية لديها بالفعل البنية القانونية التي تحتاجها للانفصال، فلكل منها دستورها، ومجلسها التشريعي الخاص، ولها رئيسها أو رئيس وزرائها، ونظام للمحاكم، وعلم، ونشيد وطني، وكذلك هناك بالطبع اختلافات في ما يتعلق بتاريخها، وجغرافيتها، ومواردها الطبيعية.

صورة أرشيفية تجمع قائد “فاغنر” يفغيني بريغوجين مع الرئيس الروسي فلادمير بوتين/ إنترنت + وكالات

تلك الجمهوريات بعضها على حدود روسيا وغنية بالموارد وبعضها جمهوريات في القوقاز، والبعض الآخر في منطقة الفولغا، ومع أنها غير سياحية لكن ذات موقع استراتيجي وموارد طبيعية، وتقطنها أعداد كبيرة من المسلمين والبوذيين، مثل تاتارستان، وكالموكيا وجمهورية مولدوفا.

بناء على هذا السيناريو، ربما ستكون أي موجة جديدة من الانفصال من جانب الجمهوريات الروسية سلمية مثل الموجة الأولى عام 1991، بحسب نيجريا الذي أشار إلى أنها، إذا لم تنجح فقد تؤدي إلى حرب أهلية مطوّلة مثل تلك التي شهدتها يوغسلافيا، لافتا إلى أن ذلك خلاف مزاعم نظرية المؤامرة في موسكو، وهي كثيرة، إذ لا تعتبر المشاكل الحالية في روسيا نتيجة لمؤامرات شريرة في العواصم الأجنبية، ولكنها نتيجة لسياسات بوتين الفاسدة والقمعية في الداخل، والتحريفية والتوسعية في الخارج.

في مقابل ذلك، يرى نيجيريا أن على صانعي السياسات في الولايات المتحدة والعالم مواجهة ثلاث قضايا شائكة؛ أولها كيفية التعامل مع مطالب الاعتراف من جانب الجمهوريات الروسية التي تسعى لتقرير المصير. ثانيا، كيفية ضمان عدم استخدام الأسلحة النووية التي يبلغ عددها 6000 أثناء القلاقل، في الوقت الذي أثار فيه الخبير الإستراتيجي ماثيو كروينج، إمكانية قيام روسيا بتجربة أول حرب أهلية نووية.

أما ثالثا، كيفية ردع أي اغتصاب صيني لآراض في منطقة سيبيريا الغنية بالموارد، فالحدود الحالية تم ترسيخها قبل 160 عاما عندما اضطرت الصين الضعيفة إلى أن تتنازل لروسيا القوية عن 350 ألف ميل مربع من سيبيريا، لكن اليوم ميزان القوة بين الصين وروسيا وخاصة في ما يتعلق بالسكان في منطقة الحدود، حيث يواجه ستة ملايين من الروس 90 مليونا من الصينيين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات