دولة ميانمار أو بورما سابقا، تشهد إضرابا على عدة أصعدة، لا سيما بعد أن نفّذ جيش ميانمار انقلابا عسكريا مطلع شباط/فبراير 2021، وإعلان حال الطوارئ لمدة عام، وتعين مين أونغ هلاينغ، رئيسا مؤقتا وقائدا أعلى للجيش والقوات المسلحة للبلاد، بعد اعتقاله الزعيمة المدنية أونغ سان سوتشي، ومسؤولين كبار آخرين في الدولة، بينهم الرئيس وين مينت، والمستشارة سان سو تشي، الأمر الذي أغرق معظم البلاد في حرب أهلية دموية لا تزال مستمرة.

هذا الانقلاب أثار جملة تنديدات من كافة أنحاء العالم، ومن ثم توالت الدعوات إلى العودة للمسار الديمقراطي واحترام إرادة الشعب المتمثلة في نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة. ومنذ ذلك الحين البلاد في دوامة مضطربة من المشاكل والأعمال والأنشطة غير المشروعة.

بالنظر إلى استيلاء جيش ميانمار على السلطة في مطلع شباط/فبراير 2022، فإن هذا لا يعبّر سوى عن عقيدة أيديولوجية عسكرية متجذرة في البلاد منذ الاستقلال عام 1948، ويؤمن من خلالها العسكر بأن لهم دورا مركزيا مكلفين به في قيادة سدة الحكم.

قوة جيش ميانمار وفق تقارير ليست عسكرية فحسب، بل اقتصادية أيضا. فرغم أن الجيش يحصل رسميا على 14 بالمئة من مجموع الميزانية العامة للدولة فإن حجم الأموال التي يملكها يتعدى الأرقام المعلنة، كما أن مصادر تمويله مشبوهة، واستطرادا على ذلك، كشفت دراسة حديثة لمكتب “الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة” (يو إن أو دي سي)، أن زراعة نبات خشخاش الأفيون في ميانمار عام 2022، ارتفعت بنسبة 33 بالمئة مقارنة بالموسم السابق.

هذا الأمر، يضع المرء أمام العديد من التساؤلات، حول الاستراتيجيات التي يتم الاعتماد عليها لتمويل الجيش في ميانمار، وعوامل تعبئة الصراع في المنطقة، وكذلك الموارد التي تزوّد هذه الجيوش بالمال والسلاح.

استراتيجيات الاقتصاد

تقرير مكتب “الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة”، يقول إن زراعة خشخاش الأفيون ارتفعت في ميانمار منذ استيلاء الجيش على الدولة عام 2021، الواقعة في جنوب شرق آسيا، مما عكس التراجع المطّرد الذي شوهد في المحاصيل غير المشروعة بين عامي 2014 و2020.

الدراسة تشير إلى استخدام أساليب أكثر تعقيدا في الزراعة والتركيز على زراعة خشخاش الأفيون، وأضافت “يُظهر موسم النمو الكامل الأول منذ الاستيلاء العسكري زيادة بنسبة 33 بالمئة في مساحة الزراعة لتصل إلى 40100 هكتار وزيادة بنسبة 88 بالمئة في المحصول المحتمل إلى 790 طنا متريا. بعد زيادة معتدلة في مساحة الزراعة بنسبة 2 بالمئة والمحصول 4 بالمئة خلال موسم 2021، وتؤكد نتائج عام 2022 أن هناك توسعا كبيرا في اقتصاد الأفيون في ميانمار”.

جيريمي دوغلاس المدير الإقليمي للمكتب الأممي، أشار إلى الاضطرابات الاقتصادية والأمنية المتعلقة بالحوكمة بعد سيطرة الجيش على الحكم، وقال إن المزارعين في المناطق النائية والتي غالبا ما تكون معرّضة للصراع في الولايات الحدودية لم يجدوا أمامهم خيارات كثيرة سوى العودة إلى زراعة الأفيون، مضيفا أن زراعة الأفيون ترتبط بالوضع الاقتصادي ولا يمكن حل هذه المشكلة عن طريق تدمير المحاصيل. وقال إن عدم وجود بدائل، غالبا ما سيؤدي إلى توسع زراعة وإنتاج الأفيون.

ضمن هذا الإطار، يرى الأكاديمي والمتخصص بالشؤون الآسيوية، نبيل رشوان، أنه في ما يتعلق بميانمار، فإنها تعتمد على موارد الأحجار الطبيعية التي يتم استخراجها من الجبال وتقريبا لا توجد موارد أخرى سوى أعمال التعدين وبعض الأعمال الأخرى غير المشروعة. ونظرا لعدم وجود موانئ وبجوارها بنغلاديش الأشد فقرا وباكستان فإنها تبدو دولة صغيرة من حيث الجغرافيا والتأثير.

بالتالي، فإنه نظرا للفقر السائد في البلاد والجهل المتراكم هناك، فإن تجارة المدخرات ازدهرت فيها بشكل غير مسبوق، وأيضا جيش ميانمار يعتمد في مداخيله من تعدين الأحجار بشكل رئيسي، ومن ثم باتت تجارة المخدرات من أهم المصادر أيضا، كما أنها تجني أموالا ليست بقليلة من خلال مؤسسة ميانمار الاقتصادية القابضة المحدودة التي وصِفت في السابق بأنها “واحدة من أقوى المنظمات نفوذا وفسادا في البلاد”.

قد يهمك: إريتريا وصراع النفوذ.. عمق استراتيجي على البحر الأحمر

كذلك فإن ميانمار دولة لا تطمح لثمة دورها الخارجي على مستوى منطقتها الإقليمية. ومشكلتها الوحيدة هي مع “الروهينغا” لأسباب تبدو عرقية ثم بدرجة أقل دينية، وفق تقدير رشوان لموقع “الحل نت”.

“الأمم المتحدة” تعتقد أن هذا ناتج عن الصعوبات الاقتصادية وانعدام الأمن والأمان، إلى جانب ارتفاع الأسعار العالمية، على إثر الغزو الروسي لأوكرانيا، وكلها أسباب أدت إلى انتعاش زراعة الأفيون المستخدم في صناعة الهيروين.

بعض التقارير السابقة ذكرت أن مؤسسة الجيش في ميانمار كانت منذ استقلال البلاد عام 1948 “دولة داخل الدولة” حتى خلال السنوات القليلة التي لم تحكم فيها البلاد بشكل مباشر. وفي الفترة الممتدة من عام 1962 إلى 2011 شهدت البلاد عددا من الانتفاضات الشعبية قمعها الجيش بوحشية، وانقلابا، وحملة تطهير عرقي.

على الرغم من تسليم السلطة إلى حكومة منتخبة ديمقراطيا في عام 2015، وهي أول انتخابات منذ عام 1961، فإن القوات المسلحة في ميانمار ظلّت مؤسسة تهيمن عليها طبقة من الضباط المناوئين للسلطة المدنية.

في عام 2017 شهدت البلاد أسوأ موجة قمع في تاريخها عندما قتل الجيش وشرد الآلاف من مسلمي أقلية “الروهينغا”. وقد اتهمت الأمم المتحدة جنرالات المؤسسة العسكرية، من بينهم قائد الجيش هلينغ “64 عاما”، بارتكاب جرائم “إبادة جماعية”، واليوم يتولى هذا الأخير مقاليد السلطة في البلاد.

روسيا تدعم ميانمار؟

ميانمار هي ثاني أكبر منتج للأفيون في العالم بعد أفغانستان. البلدان هما مصدر معظم الهيروين المُباع في جميع أنحاء العالم. تُقدر قيمة اقتصاد الأفيون في ميانمار بما يصل إلى ملياري دولار، في حين تُقدر قيمة تجارة الهيروين الإقليمية بنحو 10 مليارات دولار، بناء على تقديرات “الأمم المتحدة”.

المنطقة تسمى بـ “المثلث الذهبي”، حيث تلتقي حدود ميانمار وتايلاند ولاوس، وتُعد مصدرا رئيسيا لإنتاج الأفيون والهيروين.

جيش ميانمار كان يضم 6 كتائب فقط حين حصول البلاد على استقلالها، أي حوالي 3 آلاف جندي، ومع الوقت أصبحت “التاتماداو” قوة مجهزة بمعدات متطورة تضم فرقة مشاة خفيفة وتمتلك مروحيات هجومية روسية ومقاتلات وفرقاطات صينية ومدفعية ثقيلة وأنظمة دفاع جوي حديثة.

لكن الجيش، بحسب التقديرات، لم يحقق نجاحا كبيرا في مواجهة المليشيات المسلحة المحلية التي يواجهها منذ 7 عقود، وآخرها الخيبات التي مُني بها في ظل صراعه مع “جيش إنقاذ روهينغا أراكان”، وهي قوات شعبية تدافع عن أقلية “الروهينغا” وتطالب باستقلال إقليم أراكان.

العديد من المراقبين يتساءلون عما إذا كان استخدام السلاح والأساليب القمعية السبيل الوحيد الذي يمكن أن يضمن به جيش ميانمار وحدة البلاد. لكن أحداث الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي والمواجهات مع الجماعات المسلحة العِرقية كشفت اعتماد الجنود النظاميين العنف الممنهج سبيلا لهم، قبل أن يتكرر الأمر بارتكاب جرائم التطهير العرقي ضد مسلمي “الروهينغا” عام 2017.

قد يهمك: معركة الربيع في أوكرانيا.. هل تغيّر كييف مسار الحرب؟

من جانبه، يقول المتخصص بالشؤون الآسيوية، إن زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، لميانمار قبل نحو شهرين، يبدو أنها جاءت نظرا لحاجة موسكو للبحث عن حلفاء، وكيفما كان هؤلاء الحلفاء، على خلفية الأزمة العالمية والاستقطاب الدولي نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية.

في تفسيره للأمر، يرى رشوان أن روسيا تصدّر لميانمار السلاح ولكنها أسلحة خفيفة بصفة عامة. فالدولة ليست لها مشكلات عسكرية تحتاج إلى تسليح ثقيل أو ضخم. فالمشكلة الوحيدة ربما هي مع “الروهينغا”، والتي تسيطر عليها القبلية بينما الجيش يقوم بقتالهم كنوع من البحث عن النقاء العرقي، وتظل في حدود ضيقة.

رشوان، لا يعتقد أن يكون هناك مشاكل أخرى غير المشكلة العرقية مع “الروهينغا” والتي تفاقمها مسألة زيادة عدد السكان بما يبعث بمخاوفهم لا سيما مع ضعف الموارد ككل.

عوامل الاستمرار

منذ الانقلاب راقبت “الأمم المتحدة” أيضا زيادات أكبر في إنتاج العقاقير الاصطناعية. وفي السنوات الأخيرة، حل هذا محل الأفيون كمصدر لتمويل الجماعات المسلحة العاملة في المناطق الحدودية التي مزّقتها الحرب في ميانمار.

مع ذلك، يتطلب الأفيون عمالة أكثر بكثير من الأدوية الاصطناعية، مما يجعله محصولا نقديا جذابا في بلد جفّت فيه الأزمة الاقتصادية التي أعقبت الانقلاب العديد من مصادر العمل البديلة.

عائدات مزارعي الأفيون خلال العام الماضي، نمت إلى 280 دولارا للكيلوغرام ، في علامة على جاذبية الأفيون كمحصول وسلعة، فضلا عن الطلب القوي. وإنه مصدر رئيسي للعديد من المخدرات، مثل الهيروين والمورفين والكودائين.

المتخصص بالشؤون الآسيوية، يقول إن ميانمار دولة فقيرة وليس لديها أطماع لأن يكون لديها دور إقليمي، ولا استراتيجية محددة. بالتالي، فإن استمرار عدم الاستقرار السياسي هناك، والوضع الاقتصادي الهش، وتأثيرات التضخم العالمي، فإنها عوامل مجتمعة قد تؤدي إلى زيادة هذه الأنشطة غير المشروعة، من زيادة زراعة الأفيون.

يبدو أن التحديات التي يواجهها الناس في مناطق زراعة الأفيون في ميانمار، بما في ذلك العزلة والصراع المستمر هناك، إلى جانب استمرار الظروف الاقتصادية الهشة وغياب البدائل وتدخل دول مثل روسيا والصين في هذه الدول واستغلالها بعدة طرق بمقابل مدّها بالأسلحة، سيبقي تجارة هكذا مواد غير مشروعة، مثل نبات خشخاش الأفيون، وغيرها من المواد في تنامي متصاعد، وهذا الأمر بالتحديد له عواقب وخيمة، سواء على مستوى البلاد أو على دول الإقليم أو العالم ككل، نظرا لأن الاتجاه السائد في ميانمار يشير إلى أن المنطقة تبدو الآن وكأنها تعيد الاتصال بالسوق العالمي للمخدرات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.