منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، ظل الطرفان؛ الغرب والاتحاد السوفيتي، يتصارعان بشكل غير مباشر من خلال تبادل العقوبات والقرارات التي قد تضرّ بمصالح بعضهما البعض. وعلى خلفية التغييرات والتطورات الأخيرة بين الطرفين، أعلنت روسيا عن خفض كبير في إنتاج النفط يوم الجمعة الماضي، في خطوة قد يكون لها تداعيات على منتجي النفط في الشرق الأوسط.

موسكو تعتزم خفض إنتاجها النفطي طواعية بمقدار 500 ألف برميل يوميا، أو حوالي 5 بالمئة، في آذار/مارس المقبل، بعد أن فرض الغرب سقفا على أسعار النفط الروسية، في محاولة للحد من قدرة موسكو على تمويل غزوها لأوكرانيا، لكن روسيا قالت أنها لن تلتزم بهذا الإجراء، حتى لو اضطرت إلى تقليل الإنتاج، وهذا ما حدث بالفعل.

وكالة “بلومبيرغ” الأميركية، ذكرت في وقت لاحق أن تحالف “أوبك بلس” للدول المنتجة للنفط لن يعزز الإنتاج في ضوء خفض روسيا. لذلك، من المقرر أن تنتج “أوبك بلس” كميات أقل من النفط بشكل جماعي في شهر آذار/مارس المقبل. ووكالة “رويترز” ذكرت أن روسيا لم تتشاور مع أعضاء “أوبك بلس” قبل إعلان قرار خفض الإنتاج النفطي.

كل هذا يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات حول تداعيات خفض روسيا لإنتاج النفط على السوق، وهل سيستفيد تحالف “أوبك بلس” من هذا القرار، وإذا ثمة ارتفاع آخر في أسعار النفط في خضم هذا كله، بالإضافة إلى تساؤل حول احتمال أن يؤدي هذا القرار إلى تعزيز التقارب الخليجي الأوروبي، من ناحية تكوين شراكات خليجية جديدة أم أن هذا غير وارد في الوقت الراهن، وأسباب ذلك.

قرار بطابع سياسي

على خلفية القرار الروسي بخفض إنتاج النفط، ارتفع سعر خام “برنت” من حوالي 85 دولارا إلى ما يقرب من 87 دولارا للبرميل في وقت مبكّر من يوم الجمعة الماضي، ولكن مع تجاهل المستثمرين لتأثير قرار روسيا خفض الإنتاج والتركيز بدلا من ذلك على المخاوف بشأن الطلب على المدى القصير والناجمة عن صيانة المصافي في آسيا والولايات المتحدة، تراجعت أسعار النفط يوم الإثنين الماضي بعد ارتفاعها 2 بالمئة، وفقا لبيانات السوق.

الخبير الاقتصادي، الدكتور محمد أنيس، يرى في هذا الإطار أنه أولا بما يخص القرار الروسي، فإن خلفية القرار سياسية بكل تأكيد، فعندما قررت القوى الغربية تحديد سقف سعري للنفط الخام الروسي، كان هناك تصريح رسمي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأنه يتجه نحو تخفيض إنتاج نفط بلاده، وبالتالي هذا القرار ابتداء من آذار/مارس المقبل، ذو طابع وخلفية سياسية بحتة ولا علاقة له بالعرض والطلب على الأسعار الموجودة في السوق.

ثانيا، وفق تقدير أنيس لموقع “الحل نت”، إذا تم النظر إلى الأسواق بعيدا عن القرار الروسي، فمن المفترض أن العام الحالي 2023 لن ينمو على مستوى الطلب والقوة النفطي، وذلك بسبب حالة الانكماش الاقتصادي أو الوقود المحتمل، نتيجة للتضخم العالمي، وتشديد السياسة النقدية الدولية، ورفع أسعار الفائدة على الدولار واليورو وغيرهما، وبالتالي يؤدي ذلك إما إلى ضعف النمو أو الانكماش الاقتصادي في التكتلات الاقتصادية العالمية الكبرى؛ “أميركا والاتحاد الأوروبي والصين”. لذلك، لن يكون هناك أيضا نموّا في الطلب على الوقود والنفط هذا العام، مما يؤدي بشكل ديناميكي إلى استقرار الأسعار تقريبا في الأسواق العالمية.

نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك،كان قد قال يوم الجمعة الفائت إن موسكو تعتزم خفض إنتاجها النفطي طواعية بمقدار 500 ألف برميل يوميا أو حوالي خمسة بالمئة في مارس/آذار المقبل وذلك بعد أن طبق الغرب سقفا لأسعار النفط الروسي.

قد يهمك: سياسة ألمانيا الخارجية تجاه دول الخليج.. زخم جديد أم إعادة ضبط؟

روسيا تُعتبر ثاني أكبر مصدّر للنفط في العالم، وقال نوفاك في بيان “حتى اليوم، نبيع إنتاجنا النفطي بالكامل، ومع ذلك وكما ذكرنا سابقا لن نبيع النفط لأولئك الذين يلتزمون بشكل مباشر أو غير مباشر بالحد الأقصى للسعر”، مؤكدا أن روسيا لم تُجرِ أي مشاورات رسمية لأن التخفيضات طوعية. وقال المتحدث باسمه في وقت لاحق إن التخفيضات ستتعلّق بالنفط الخام فقط دون مكثفات الغاز وهو نوع من النفط الخفيف.

بينما تخوض روسيا متاهة القيود التي فرضها الغرب في محاولة للضغط عليها من خلال خنق عائداتها من النفط، يشير خفض الإنتاج إلى أن سقف الأسعار المفروض على المنتجات النفطية الروسية له بعض التأثير. واتفقت “مجموعة السبع” و”الاتحاد الأوروبي” وأستراليا على حظر تقديم خدمات التأمين البحري والتمويل والوساطة للنفط الروسي المنقول بحرا، إذا زاد سعره عن 60 دولارا للبرميل اعتبارا من 5 من كانون الأول/ديسمبر الماضي، في إطار العقوبات الغربية على موسكو بسبب غزوها لأوكرانيا.

عاملان يؤثران في الأسعار

على الرغم من توقعات عديدة بانخفاضه جراء العقوبات الغربية، ارتفع إنتاج النفط الروسي 2 بالمئة، العام الماضي إلى 535 مليون طن “10.7 مليون برميل يوميا” بفضل قفزة في المبيعات للقارة الأسيوية وخاصة للهند والصين. لكن بعد سلسلة من العقوبات الغربية الجديدة تواجه روسيا المزيد من التحديات في الإبقاء على حجم إنتاجها من النفط، وهو مصدر رئيسي لإيرادات الدولة التي سجلت عجزا في الميزانية بلغ 25 مليار دولار في يناير/كانون الثاني الماضي.

بالعودة إلى الخبير الاقتصادي، يعتقد أن ثمة عاملين رئيسيين يمكنهما التأثير على معادلة استقرار الأسعار في أسواق النفط؛ الأول هو رفع الصين للإجراءات الاحترازية من جائحة “كورونا”، وبالتالي زيادة الطلب الصيني بنحو 500-600 ألف برميل يوميا. والعامل الثاني هو القرار الروسي بخفض إنتاج النفط، وهما عاملان يمكن أن يؤثران على المعادلة السعرية للأسواق، والتي من المفترض أن تظل عند حوالي 80 دولارا للبرميل الواحد.

من حيث تداعيات القرار الروسي، قد يكون إيجابيا بالنسبة للأسعار، حيث ارتفعت أسعار النفط والغاز بنسبة 2-3 بالمئة وأكثر قليلا، لكنه غير مستدام، وهذا ما حصل مؤخرا، وفق تقدير أنيس. والذي عزا ذلك بوجود منتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة الأميركية، الذين لديهم القدرة على سد هذا النقص في الأسواق وبالسعر الحالي.

بمعنى أكثر دقة، فهم قادرون على سد هذه الفجوة من نقص الطاقة، وبالتالي تقليل أي منتج آخر للنفط، سواء من قبل روسيا أو من خلال تحالف “أوبك بلس”، سيؤدي إلى استبدال المنتجين وتقليص في الحصة السوقية للمنتج الذي قلل من إنتاجه، وبالتالي أيضا  إذا حدث عجز كبير في السوق وارتفعت الأسعار، فإن منتجي النفط الصخري في أميركا قادرون على تغطية هذا العجز ومن ثم سيتم استبدال المنتجين داخل السوق.

هذا وانخفضت العقود الآجلة لخام “برنت” 82 سنتا أو 0.95 بالمئة إلى 86.57 دولار للبرميل بحلول الساعة 7 بتوقيت غرينتش بعد ارتفاعها 2.2 بالمئة يوم الجمعة الماضي. وبلغ سعر خام “غرب تكساس” الوسيط الأميركي 78.86 دولار للبرميل بانخفاض 86 سنتا أو 1.08 بالمئة بعد ارتفاعه 2.1 بالمئة في الجلسة السابقة.

المحلل لدى “آي إن جي”، وارن باترسون، قال إن الضعف الذي نشهده في أسعار التعاملات الصباحية المبكرة يوم الإثنين الماضي، يعكس على الأرجح اقتراب السوق من إدراك أن هذه التخفيضات قد تم تسعيرها بالفعل إلى حد كبير. وارتفع الخامان بأكثر من 8 بالمئة الأسبوع الماضي مدعومين بالتفاؤل بشأن تعافي الطلب في الصين، أكبر مستورد للخام في العام وثاني أكبر مستهلك للنفط، بعد إلغاء القيود المتعلقة بمكافحة “كوفيد-19” في كانون الأول/ديسمبر 2022.

ما وجهة “أوبك بلس”؟

تحالف “أوبك بلس”، يضم بالإضافة إلى دول “منظمة البلدان المصدرة للبترول” (أوبك)، كلا من روسيا، وأذربيجان، والبحرين، وبروناي، وكازاخستان، وماليزيا، والمكسيك، وعُمان، وجنوب السودان، والسودان. وتُعد روسيا والمملكة العربية السعودية من أكبر منتجي النفط في “أوبك بلس”. كما واتفقت “أوبك بلس” الشهر الماضي على ترك إنتاج النفط دون تغيير. وتستمر اتفاقيتها الحالية على مستويات الإنتاج حتى نهاية عام 2023.

حول موقف تحالف “أوبك بلس” من القرار الروسي بخفض الإنتاج النفطي، يعتقد أنيس أن الأطراف الأخرى من هذا التحالف، ماعدا موسكو، سوف تنأى بنفسها عن هذا الأمر، ذلك لأن القوى الغربية دائما ما كانت تتهم “أوبك بلس” بالتلاعب بأسعار المحروقات والنفط، ودائما ما كان رد الأخير بأن قرارات خفض الإنتاج وزيادته تبقى رهينة الأُسس الاقتصادية البحتة ومرتبطة بمعدلات الطلب والعرض في السوق، إلى جانب ضبط الأسعار وليس أكثر من ذلك.

لذلك ستبقى دول أعضاء “أوبك بلس”، ما عدا روسيا، على الحياد ولن تنتهز الفرصة للاستفادة بالزيادة أو حتى التخفيض، وذلك لإزالة الشكوك حول كل ما سبق من اتهامات التلاعب بالتسعير النفطي، خاصة وأن القرار الروسي سياسي وباقي أعضاء “أوبك بلس”، ولا سيما الأعضاء الرئيسيين لن ينزلقوا إلى هذا المسار.

موقع “المونيتور” الأميركي قال إن “أوبك بلس” لم تعزز الإنتاج استجابة لروسيا بسبب اتفاقها الحالي وأن هذا التحالف يمكن أن يستفيد من آثار خفض روسيا من إنتاجيتها للنفط على أسعار النفط العالمية، حيث ستحصل على مكافأة مجانية للأسعار حيث قررت روسيا سحب النفط من السوق دون أن تطالبها أو تدفعها لفعل الشيء نفسه، لكن لا يبدو أنه سيزوّد الإنتاج ردا على ذلك إلا إذا كان هناك خطر من أن يتسبب قطع روسيا في أزمة الإمدادات، لكن لا يبدو أن هذا هو الحال. كما أن أعضاء “أوبك” في الشرق الأوسط متّفقون بشكل عام على إنتاج النفط على الرغم من دعوات العراق لحصة إنتاج أكبر في السنوات الأخيرة.

تعزيز التقارب الخليجي الأوروبي

في سياق كيفية تعزيز القرار الروسي من التقارب الخليجي الأوروبي، يقول أنيس إنه إذا قام أعضاء “أوبك” الأساسيين بإحداث شرخ في “أوبك بلس”، ومن ثم تعويض الإنتاج النفط الروسي في الأسواق، فإن هذا الأمر سوف يقرّب بشكل كبير الدول الخليجية من الدول الأوروبية، سواء أوروبا أو واشنطن.

في جميع الأحوال، يعتقد أنيس أن العلاقة بين “أوبك” وروسيا هي علاقة براغماتية ومؤقتة وليس تحالفا قويا ومستداما يمكن الاعتماد عليه. كما يستبعد أنيس تضامن دول الخليج مع روسيا في هذا القرار الفردي.

هذا وتراجعت أسعار النفط في عام 2020 وسط جائحة “كورونا” وحرب الأسعار بين روسيا والسعودية. وظل سعر خام “برنت” ثابتا حول 80 دولارا للبرميل أو أعلى منذ بداية عام 2022.

كما ارتفعت الأسعار بعد الغزو الروسي لأوكرانيا العام الماضي. وفي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، فرضت “أوبك بلاس” أيضا خفضا للإنتاج النفطي.

خلاصة القول إن القرار الروسي بخفض الإنتاج النفطي يغلب عليه الطابع السياسي وتأثيره في الأسواق ضعيف ولا يكاد يذكر، بالتالي ليست ثمة أسباب قوية لارتفاع أسعار النفط بشكل كبير، مثلما لا يوجد تضامن أو استحواذ من قبل دول الخليج على هذه الظروف، بالنظر إلى أنها ترى في دول “الاتحاد الأوروبي” والولايات المتحدة على وجه التحديد الشريك الأول وخاصة في مجال الأمن والتسليح.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.