في خضم الضغوط التي تعاني منها إيران داخليا وخارجيا، نتيجة سلوكها العدائي وقمعها لحريات شعبها. تشهد طهران حاليا أزمة عميقة في ظل استمرار احتجاجات شعبية واسعة رغم ما يقابلها من عنف وقمع من قبل السلطات الأمنية الإيرانية، بالإضافة إلى موجات غضب عالمية من طهران، ما أدى إلى تشديد الغرب وأميركا للعقوبات عليها.

كذلك، خلال الفترة الماضية ثمة تحركات إقليمية عديدة منها الخليجية الأميركية على وجه الخصوص، بغية وضع خطط لردع خطر التمدد الإيراني في المنطقة، سيما في ظل تغير طبيعة التهديدات الأمنية التي أضحت غير تقليدية، خصوصا مع إيران التي ترتبط حدودها المائية بجميع الدول الخليجية.

طهران باتت تتلمس خطرا قد يهدد نفوذها أو وجود نظامها في الحكم، وإن كانت نسبة هذا الأمر ضعيفا إلى حدّ ما. لذلك يبدو أنها بدأت تعمل على تبني بعض الاستراتيجيات لتقليل مستوى الضغط والخطر عليها. وربما تكون إحدى هذه الاستراتيجيات التقارب والمصالحة مع دول الجوار ومحيط إيران الإقليمي. ومؤخرا، بعثت طهران بعدة إشارات ورسائل تلمّح إلى هذا الهدف، حيث زار وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، بغداد مؤخرا، وأعرب عن ترحيبه بجهود الحكومة العراقية لتعزيز الحوار مع السعودية، كاشفا أيضا عن محاولة بغداد التوسط بين طهران والقاهرة.

من هنا لا بد من طرح بعض التساؤلات، حول مغزى الرسائل الإيرانية هذه، ودوافعها من التقارب والحوار مع كل من الرياض والقاهرة، وفيما إذا كانت طهران تحاول الدخول في لعبة “المراوغة وكسب الوقت” عبر هكذا استراتيجيات، كما تفعل كعادتها، وهل من فرص لتحقيق التقارب بين طهران والرياض ومن ثم القاهرة.

دوافع التقارب

خلال مؤتمر صحافي إلى جانب نظيره العراقي، فؤاد حسين، رحّب الوزير الإيراني بالجهود المبذولة من قبل الحكومة العراقية من أجل تعزيز الحوار والتعاون بين السعودية وإيران، وأيضا بحث مع حسين أمن الحدود بين العراق وإيران، واستئناف المفاوضات من أجل خفض التوتر الإقليمي.

أمير عبد اللهيان قال “في إطار تعزيز التعاون بين دول المنطقة، نرحّب بعودةٍ للعلاقات بين إيران والسعودية”. وذكر كذلك وجود وساطة مماثلة تقوم بها بغداد تجمع بين طهران والقاهرة، وفق تقارير.

كذلك، تحدّث عن مفاوضات فيينا الخاصة بإعادة إحياء الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه في العام 2015 بهدف الحد من أنشطة إيران النووية مقابل رفعٍ للعقوبات الدولية. لكن هذه المفاوضات متعثّرة حاليا وسط توتر مع واشنطن.

أمير عبد اللهيان أكد أن بلاده مستعدة لاتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل إنجاح المفاوضات التي تُعقد في فيينا، على أساس المناقشات السابقة وضمن الالتزام بالخطوط الحمراء التي حددتها طهران، مضيفا “لكن إذا اختار الطرف الأميركي طريقاً آخر… فكلّ الخيارات موجودة على الطاولة”.

الباحث السياسي والخبير في الشؤون الإيرانية، وجدان عبد الرحمن، أوضح لـ”الحل نت”، أنه بكل تأكيد المحاولة الإيرانية للتقارب مع الدول العربية تأتي نتيجة الظروف الإيرانية الداخلية، حيث تعاني من ضغوط جمّة، نتيجة الاحتجاجات الشعبية الأخيرة.

قد يهمك: “التهديد الأمني”.. هل يعزز توجه الخليج نحو الاكتفاء الذاتي العسكري؟

هذا بالإضافة إلى الضغوط الإقليمية والدولية، التي تدفعها نحو بناء العلاقات مع الدول المهمة في العالم العربي، مثل السعودية ومصر، وهي تعرف حجم هذين الدولتين وبالتالي ارتأت أنه من الضروري التقارب معها في الوقت الراهن.

المدهش في الأمر أن بغداد لعبت في العامين الأخيرين دور الوسيط في محادثات جمعت بين السعودية وإيران، خصمها الرئيسي في المنطقة. وقطع البلدان علاقاتهما الدبلوماسية في العام 2016، فيما المفاوضات التي انطلقت بينهما في بغداد في العام 2021 تراوح مكانها منذ عدة أشهر.

لكن علاقات القاهرة وطهران تدهورت عقب الثورة في إيران عام 1979 وتوقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وجرت الاتصالات عبر مكاتب مصالح، وهى شكل أقل مستوى من التمثيل الدبلوماسي.

“مخاتلة إيرانية”

الباحث في الشأن الإيراني يرى أن هذا الترحيب الإيراني لا يتعدى مرحلة المراوغة وسياسات النظام الإيراني وحتى العلاقات التي يبنيها مع الدول العربية، تأتي في ظل ظروف، وليست علاقات طبيعية، وقد شوهد بعد سقوط نظام الراحل حسني في مصر مبارك ووصول الرئيس المصري الأسبق، الراحل محمد مرسي، أن طهران عبر “فيلق القدس وشخص قاسم سليماني، حاولوا الالتفاف على الحكومة المصرية وعقد اجتماعات سرية مع شخصيات من “الإخوان المسلمين”، وذلك بغية تشكيل جيش موازٍ في مصر لإضعاف الجيش المصري بأكمله، لذا فإن العلاقات الإيرانية مع الدول العربية خطيرة للغاية.

أيضا ما شوهد مع السعودية من تحركات إيرانية من خلال دعم الجماعات الشيعية داخل المملكة ومحاولة خلق حالة قلق لديها، وبالتالي فإن علاقات طهران مع الدول العربية خطيرة، خاصة في الظرف الحالي، لأنها لا تأتي من قناعة على الإطلاق من الجانب الإيراني من خلال رفع الخلافات والتوترات مع هذه الدول، وفق عبد الرحمن.

كل ما طلب من النظام الإيراني هو الكف عن تدخلاتها السلبية في شؤون دول المنطقة، فقد شاهدنا بعد تدخله في أربع عواصم عربية؛ لبنان والعراق واليمن وسوريا، بدأ يتدخل في موضوع الأردن، بشكل سلبي كبير، وبالتالي إذا كان النظام الإيراني يرغب ببناء علاقات مع الدول العربية، فعليه تغيير سلوكه الحقيقي تجاه الدول العربية من إنهاء تدخلاته فيها، وليس اتباع مثل هكذا خدعة، ويجب ألّا يتصور بأن الدول العربية لا يمكن لها أن تقرأ هذه التصرفات والسلوكيات الإيرانية، فهذه الدول بالنهاية تريد أفعالا وليس أقوالا.

في السياق، أعلنت إيران يوم الأربعاء الفائت، أن مفتشين من “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” موجودون في طهران لحل الغموض المتعلق بمعلومات عن البرنامج النووي للبلاد. في حين، دعا وزير الخارجية العراقي من جهته إلى مواصلة الحوار، مشيرا إلى أنه “من المهم للعراق أن يصل الطرفان الإيراني والأميركي إلى تفاهمات، ونتمنى أن يعود الطرفان إلى مباحثاتهما في فيينا للوصول إلى النتائج النهائية”.

أواخر عام 2022 الماضي، قامت إيران التي شهدت تظاهرات مناهضة للنظام، بقصف المعارضة الكردية الإيرانية الموجودة في شمال العراق أكثر من مرة. وتتهم إيران تلك الجماعات بالتسلل إلى أراضيها من أجل شنّ هجمات وبالتحريض على التظاهرات. وتعهدت بغداد حينها بنشر حرس الحدود على الحدود بين العراق وإيران.

الوزير العراقي ضمن هذا الإطار قال إن الحكومة العراقية اتخذت مجموعة من الإجراءات لحماية الحدود العراقية الإيرانية وهناك تفاهمات من أجل عدم السماح لبعض المجموعات التي تريد أن تعبر الحدود إلى الجانب الآخر.

لا علاقات عربية إيرانية

الاحتجاجات وما تبعها من عدم استقرار داخلي وغضب خارجي ليست الأزمة الوحيدة التي تعيشها إيران، لكنها جزء من سلسلة أزمات يقودها تعثر المفاوضات للوصول إلى اتفاق نووي جديد إلى حد الموت سريريا. ومع استمرار التهديدات الإسرائيلية بضرب إيران جراء تعثر المباحثات النووية، الأمر الذي يتخوف ويولّد الشك لدى الأخيرة من تشكّل تحالف عربي إسرائيلي ضدها.

ففي ظل المتغيرات والتطورات الإقليمية والدولية واستمرار حالة عدم الاستقرار في عدد من دول الجوار الإقليمي، وتوسّع إيران على وجه التحديد من خلال ميليشياتها في العديد من دول المنطقة، زادت مخاوف الدول العربية بالمنطقة من الخطر الإيراني المحدق، وقد حذر بعض قادة دول الخليج في الآونة الأخيرة من أن منطقة الخليج على أعتاب تحديات أمنية، على ضوء تعثر المفاوضات النووية الإيرانية. وبالتالي حدوث تحالف عربي إسرائيلي ليس أمرا مستبعدا.

قد يهمك: “الأمن المستقبلي”.. أولوية الخليج وأميركا في المنطقة؟

عبد الرحمن يقول إن فرص تحقيق العلاقات بعيدة جدا، ذلك لأن الظرف الذي يمر به النظام الإيراني وفي ظل تحرك عربي ليكون له دور في ردع التهديدات الإيرانية وأذرعها في المنطقة أو من صد ملفها النووي التي تحاول طهران من خلاله الحصول على القنبلة النووية، ومن المعروف أن خطر هذا الأمر موجه لدول المنطقة في البداية، ومن ثم قد يكون رادعا للنظام الإيراني.

بالتالي يستبعد عبد الرحمن أن تنجرف الدول العربية في هذا الوقت إلى الحوار مع إيران. وإذا كانت الأخيرة جادة في اقتراحها، فعليها أن تسمح لهم بالاطلاع على ملفّها النووي، وكذلك إعطاء الضوء الأخضر بأن إيران ستوافق على انخراط الدول العربية في هذا الملف، ولكن هذا مستبعد جدا.

عليه ووفق تقدير عبد الرحمن، جاءت هذه الدعوات الإيرانية في ظل شعورها بضغوط وخطر حقيقيين، وبما أن التهديد الإيراني أمر مشترك بين الدول العربية وإسرائيل، فمن المرجح أن يكون هناك تواصل وتبادل للمعلومات من الروابط الأمنية بين دول المنطقة وإسرائيل، خاصة وأن هناك حديث عن تحالف محتمل بينهما لردع التهديد الإيراني، وبالتالي تحاول إيران منع حدوث مثل هذا التقارب، وهذا ما يدفعها للتحرك لإجراء حوارات مع الدول العربية ذات الأهمية الكبرى في المنطقة، لكن إجراء مثل هذه الحوارات أمر مستبعد على الإطلاق.

يبدو أن طهران وفي ظل ما تواجهه الآن من ضغوط داخلية وخسارتها مواقعها الدولية بالعالم نتيجة لسياستها المؤذية والقمعية، تحاول المخاتلة والالتفاف عبر الانفتاح على العالم العربي.

غير أن هذه دول العربية تدرك تماما مدى مخادعة وعدم جدّية هذا النظام في سياساته تجاه ما تقول وتطلق من شعارات، وما يثبت ذلك تدخلها في شؤون العديد من الدول العربية، وزعزعتها لأمن المنطقة، وبالتالي حدوث مصالحة بين هذه الأطراف أمر بعيد المنال، على الأقل خلال المستقبل المنظور، لاسيما في ظل استمرار سياسة إيرانية العدائية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.