بينما تواصل الحكومة السورية محاولاتها المحمومة باستغلال وتوظيف كارثة الزلزال المدمّر لتحقيق أهداف سياسية وبراغماتية عبر الضغط على وتر تخفيف العقوبات المفروضة عليها، فإن “مصرف سوريا المركزي” بدأ اجتماعاته لبحث إجراءات إعادة تفعيل نظام “سويفت” العالمي للحوالات المالية، في خطوة للاستفادة القصوى من استثناءات قانون العقوبات الأميركي لجهود إغاثة منكوبي الزلزال في سوريا.

حكومة دمشق تسعى للعب على عدة مسارات من خلال استغلال فيض التعاطف العربي والدولي على إثر مأساة الزلزال الذي ضرب كلّ من سوريا وتركيا في أوائل شباط/فبراير الفائت، بعيدا عن استغلالها للجانب السياسي، فإنها لا تنفك للبحث عن ثغرات أو أن تتحايل على الاستثناء الذي أعلنته “وزارة الخزانة الأميركية”، حول العقوبات الدولية المفروضة عليها، حيث أصدرت واشنطن مؤخرا وثيقة بأن العقوبات لن تُطبّق على المعاملات الخاصة بتقديم المساعدات المتعلقة بالزلزال حتى الثامن من آب/أغسطس 2023.

هذا الترخيص سيكون ساري المفعول لمدة 6 أشهر، في حين أشارت “وزارة الخزانة الأميركية” على وجه التحديد إلى أنه يُسمح بتحويل الأموال من وإلى سوريا. ومن هنا تسعى دمشق لاستغلاله قدر المستطاع، بغية تحسين واقعها الاقتصادي المتهالك ومن ثم إحكام قبضتها على البلاد بشكل أكبر، لذلك تبحث اليوم عبر عدة وسائل لإعادة تفعيل نظام “سويف” على مصرفها المركزي.

بعد كل ذلك كان لا بدّ من توضيح عدّة  تساؤلات حول أهداف “المصرف المركزي السوري” من إعادة تفعيل نظام “السويفت”، وإذا ما كانت استثناءات العقوبات الأميركية ستمكّن دمشق من إعادة هذا النظام المالي العالمي، وإذا ما استطاعت دمشق من إعادة تفعيل “السويفت” ما تبعاته ككل، ومدى أهميته لحكومة دمشق.

لإنقاذ الليرة السورية

في السياق، تخضع جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك “سويفت”، التي بدأت نشاطها رسميا في عام 1979، لقوانين “الاتحاد الأوروبي”، وتوفر سرعة التحويلات المالية إلى الجهات المستفيدة مع عنصر أمان عالٍ. ونقلت صحيفة “تشرين” المحلية عن مصادر مصرفية، كانت حاضرة في اجتماع المصرف المركزي يوم الأربعاء الماضي، أن “الاجتماع ضم ممثلين عن المصارف ولا سيما المختصين في الشؤون القانونية”، مضيفة أن “المجتمعين بحثوا الإجراءات اللازمة لتفعيل نظام سويفت العالمي من أجل انسياب الحوالات المالية إلى سوريا المدرجة ضمن المساعدات الإغاثية للمتضررين من الزلزال في المحافظات المنكوبة”.

الباحث والخبير الاقتصادي، حسن الشاغل، يوضح لموقع “الحل نت”، إن “المصرف المركزي السوري” والحكومة السورية بشكل عام تحاول بالطبع إدخال النقد الأجنبي إلى سوريا من أجل إنقاذ الليرة السورية من الانهيار التام واستقرارها إلى حد ما. وبالطبع هذا من وجهة نظر علمية، لكن لا يخفى على أحد أن أي أموال تذهب إلى سوريا تكون لجهة تعزيز سلطة الحكومة السورية، ومعظمها تذهب إلى جيوب الأطراف المحسوبة والمقربة من هذه السلطة.

نهاية عام 2020، أدرجت واشنطن “مصرف سوريا المركزي” ضمن عقوباتها مع العديد من المصارف السورية من بينها بنك “الشام” و”المصرف العقاري السوري، المصرف الصناعي، المصرف الزراعي التعاوني، ومصرف التوفير، ومصرف التسليف الشعبي”.

هذا ومنذ معاقبته، يواجه “المصرف المركزي” مشكلة كبيرة، بسبب استبعاده من شبكة المزود الدولي لخدمات التراسل المالي المؤمن، ما يعني فقدانه القدرة على تلقي أموال من المؤسسات الدولية عن صادراته، أو الدفع لجهات خارجية لقاء الواردات.

قد يهمك: حمّى السياسة النقدية.. دبلوماسية تحرير سعر الليرة السورية أداة فعّالة؟

بعد العقوبات الأميركية هذه صرح مسؤولون في حكومة دمشق عن إمكانية التوجه إلى نظام الحوالات المالية الروسي “”سبفس”، لكن عندما يتوسع. وفي تصريح لمدير العمليات المصرفية للمصرف، فؤاد علي، في نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي، حيث قال إن “نظام الحوالات الروسي لا يزال ناشئا ولا يفيدنا من الناحية المالية، ونحن نسير فيه وعندما يتوسع وتنضم إليه الصين وإيران ودول بريكس وغيرها سيكون خيارنا ومن ثم تحقيق خطوات الانضمام إليه”.

لا إعادة تفعيل نظام “السويفت”

الوزارة الأميركية، قالت أثناء بيانها في الـ 10 من شباط/فبراير الماضي، إن “مكتب مراقبة الأصول الأجنبية” التابع لوزارة الخزانة (أوفاك) منح ترخيصا عاما يسمح لمدة 180 يوما، أي 6 أشهر، ابتداء من الـ 10 من شباط/فبراير الفائت وحتى الساعة 12:01 صباحا بتوقيت الساحل الشرقي للولايات المتحدة يوم 8 آب/أغسطس 2023، مشيرة على وجه التحديد إلى تحويل الأموال من وإلى سوريا. والترخيص يسمح بجميع المعاملات المتعلقة بالإغاثة من الزلزال الذي ضرب سوريا، والتي كانت محظورة بموجب لوائح العقوبات الأميركية المفروضة على الحكومة السورية، جراء سلوكها الوحشي تجاه الشعب السوري.

الإعفاءات تنص على التوسع في التراخيص الإنسانية الحالية، لتمكين الحكومات الأجنبية والشركات الخاصة من تقديم الدعم لجهود الإغاثة من الزلزال، وتوفر ضمانات إضافية للمؤسسات المالية التي تعالج مثل هذه المعاملات. ولتوضيح الاستثناء الأميركي نشرت “وزارة الخزانة الأميركية” دليلا تفصيليا للمعاملات المصرّح بها وفق قانون العقوبات الأميركية المفروضة على حكومة دمشق لدعم جهود الإغاثة في سوريا عقب كارثة الزلزال، ويتضمن هذا الدليل شرحا لكيفية تقديم المساعدات الإنسانية المشروعة للشعب السوري مع الامتثال لقانون العقوبات.

بحسب نص الإرشادات والإجابات عن الأسئلة التي نشرتها وزارة الخزانة الأميركية في شباط/فبراير الفائت، والمتعلقة بالمعاملات المصرح بها وفق قانون العقوبات لجهود الإغاثة في سوريا، فإن مصطلح “حكومة النظام السوري” في قانون اللوائح الفيدرالية، يشمل “دولة وحكومة الجمهورية العربية السورية، بالإضافة إلى أي تقسيم سياسي أو وكالة أو جهاز تابع لها، بما في ذلك مصرف سوريا المركزي”. ولا يسمح الترخيص الجديد بالمعاملات التي تنطوي على أي كيانات مملوكة بنسبة 50 بالمئة أو أكثر من قبل حكومة دمشق، مثل الكيانات المملوكة للدولة، أو أي كيان تسيطر عليه الحكومة السورية.

الباحث الاقتصادي، الشاغل، لا يعتقد أن واشنطن ستسمح بتفعيل نظام “سويفت” للحكومة السورية، فهي ستسهل المساعدات الإنسانية للشركات أو أي جهة ما أو حتى لأشخاص معينين، ولكن حتما ستكون عبر وكالات “الأمم المتحدة”.

بمعنى أن دول “الاتحاد الأوروبي” حين قالت إنها ستقدم مساعدات إغاثية لمتضرري الزلزال في سوريا بقيمة ما يقارب 100 مليون دولار، فإن هذا المبلغ بالتأكيد لن يذهب إلى الحكومة السورية وإنما سيكون على شكل مساعدات مقدمة عن طريق “الأمم المتحدة”. والولايات المتحدة ليست مضطرة حقيقة لإدخال الحكومة السورية لنظام “سويفت”، فإن وجودها من عدمها واحد، وفق تقدير الشاغل.

تأكيدا على تحليل الشاغل، فإن الاستثناء الأميركي الأخير لا يسمح بالمعاملات التي تشمل أشخاصا آخرين محظورين بموجب لوائح العقوبات المفروضة على الحكومة السورية، بما في ذلك الشركات والشراكات والجمعيات أو الكيانات الأخرى التي تملكها أو تسيطر عليها حكومة دمشق بشكل مباشر أو غير مباشر، وينطبق الترخيص الجديد فقط على المعاملات المتعلقة بجهود الإغاثة من الزلزال.

عدد الدول المشتركة في نظام “سويفت” يبلغ أكثر من 209 دولة، من بينها معظم الدول العربية، ويزيد عدد المؤسسات المالية والبنوك المشاركة فيها على 11 ألفا و507، بحسب آخر الإحصائيات. ووفقا للوائح الجمعية، يجب اشتراك الدولة قبل السماح لمؤسساتها بالاشتراك. ويغطي نظام “سويفت” جميع المراسلات المتعلقة بالتعاملات المالية والبنكية التي تتم بين البنوك والمؤسسات المالية حيث يوفر النظام الحماية والسرعة الكاملة لمثل هذه التعاملات ومتابعة تسليمها للجهات المعنية.

عقوبات مُحكّمة

النائب الأول لوزير الخزانة الأميركية، أديوال أدييمو، قال حين إصدار الاستثناء الأميركي بشأن الزلزال بسوريا “في الوقت الذي يتحرك فيه الحلفاء الأجانب والشركاء الإنسانيون لمساعدة المتضررين، أريد أن أوضح أن العقوبات الأميركية على سوريا لن تعرقل الجهود المبذولة لإنقاذ حياة السوريين”، مضيفا “بينما تحتوي برامج العقوبات الأميركية بالفعل على استثناءات قوية للجهود الإنسانية، تُصدر وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز أكثر على ما هو مطلوب لإنقاذ الأرواح وإعادة البناء”.

أدييمو بيّن أن هذه العقوبات ضد سوريا كانت تنطوي في السابق على عدد من الاستثناءات المتعلقة بتقديم المساعدة الإنسانية من قبل الولايات المتحدة و”الأمم المتحدة” والمنظمات غير الحكومية، وأن الترخيص الممنوح، لا يغطي الإجراءات المتعلقة ببيع النفط السوري والمنتجات البترولية في الولايات المتحدة، كما أنه لا ينطبق على الأشخاص الذين أشارت السلطات الأميركية إلى ممتلكاتهم سابقا على أنها ممتلكات محظورة.

العديد من المراقبين يعتقدون أن القرار الأميركي إيجابي، ولكن في حال ذهبت كل المساعدات المالية لمن يستحقها ولمنكوبي الزلزال، لكنه سيكون سلبيا إذا تلاعبت الحكومة السورية بهذه المساعدات المالية وسيّسستها. خاصة وأن هذه الحكومة شبه منهارة اقتصاديا، وأي مساعدة قد تؤدي إلى تعزيز نفوذها في البلاد، لذلك من الضروري تشديد الرقابة الغربية على هذا الأمر، لما له من تداعيات سلبية بشكل عام.

قد يهمك: بين الفساد والعجز.. لماذا فشلت “التجارة الداخلية” السورية في السيطرة على أسعار السلع؟

بالعودة إلى الباحث الاقتصادي، الشاغل، فيقول إن تبعات تمكّن الحكومة السورية من إعادة تفعيل نظام “سويفت”، يعني رفع العقوبات الدولية كاملة عليها، ذلك لأن إعادة تفعيله سيكسب الحكومة السورية مكاسب مالية كبيرة وهذا ما ترفضه واشنطن بشدة وبالتالي لن تسمح الأخيرة بذلك وإن كانت دمشق تتوهم وتسعى لإحداث هذا الأمر، لا سيما وأن نظام “سويفت” مرتبط بشكل كامل مع العقوبات الدولية المفروضة على دمشق.

دمشق ومنذ وقوع كارثة الزلزال صارت كالذي لم يصدق أن كارثة وقعت بفعل الطبيعة، لتذهب وتستغل التعاطف العربي والدولي بذريعة إغاثة المتضررين من الزلزال، لكنها في الواقع تحاول الالتفاف على العقوبات الدولية والتهرب منها، بغية تغذية نظامها وتقويته اقتصاديا، خاصة وأن الوضع الاقتصادي في البلاد متهالك وعلى حافة الهاوية. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين على دراية كاملة بما يفعلونه، ولن يمنحوا دمشق أي فرصة أو ثغرة لاستغلال استثناء العقوبات أو أي شيء آخر لتعزيز نفوذها وسلطتها وسيطرتها على البلاد، طالما هي لا تغير من سلوكها ومتعنتة بسياستها القمعية، وفق مراقبين.

بشكل عام، مهما سعت حكومة دمشق لاستغلال الظرف والوضع المأساوي المتداخل الذي تعيشه سوريا اليوم، سواء سياسيا أو اقتصاديا، فهذا ليس بالأمر السهل.

فواشنطن والدول الغربية يعرفون جيدا تفاصيل وخيوط العقوبات الدولية التي فرضوها على الحكومة السورية، نتيجة سياساتها وسلوكها القمعي على مدى السنوات العشر الماضية وأكثر، حتى لو كانت دمشق تسعى وتتوهم للخلاص وإنقاذ وضعها الاقتصادي المتداعي، لجهة دعم وتعزيز سلطتها على حساب الظروف الطبيعية والحسابات الإقليمية والدولية في المشهد السوري.

لكن ما يمكن قوله وتأكيده اليوم هو أن الوضع في سوريا يتجه يوما بعد يوم نحو الغموض والتعقيد، خاصة على مستوى اقتصاد البلاد. إذ بدت الأزمة الاقتصادية تطفو على السطح تدريجيا بعد تراجع الأعمال العسكرية خلال العامين الماضيين، حتى أصبحت أشبه بشبح مرعب يرافق حياة السوريين في الداخل، ويثير بسجالات جمّة تشغل أوساط السوريين المقيمين في الخارج.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.