جدلية الدولة والمقاومة.. “حزب الله” حربة بخاصرة المكونات السياسية اللبنانية

لا تزال مشاركة “حزب الله” في الحكومة اللبنانية منذ عام 2005، وذلك بعد حصوله على مقاعد في البرلمان لأول مرة، تلقي بظلالها منذ ذلك الحين حتى هذه اللحظة، فقد لعب دورًا بارزًا بشكل متزايد في السياسة اللبنانية، وشغل الوزارات الرئيسية والمشاركة في الحكومات الائتلافية.

فكانت مشاركة “حزب الله” في الحكومة مثيرة للجدل، حيث اتهم بتقويض السيادة اللبنانية ودعم الجهات غير الحكومية في المنطقة، ومع ذلك، يؤكد “حزب الله” أنّ مشاركته في الحكومة ضرورية لحماية مصالح الشعب اللبناني ولمقاومة التدخل الخارجي.

فيما يتعلق بالانتقال من حركة مقاومة إلى قوة سياسية، من المهم الإشارة إلى أنّ “حزب الله” لا يزال يعتبر نفسه حركة مقاومة ضد إسرائيل، ومع ذلك، فقد وسع الحزب نشاطه ليشمل المشاركة في السياسة اللبنانية وتقديم الخدمات الاجتماعية لعناصره.

تساؤلات تبقى حاضرة تتمثل في تأثير تدخل “حزب الله” في الحكومة اللبنانية وعلى علاقتها بالدول العربية والغربية، وكيف أثرت مشاركة “حزب الله” في الحكومة على علاقته بمؤيديه والجمهور اللبناني الأوسع، وكيف أثرت علاقة “حزب الله” مع إيران على مقاربته للحكم في لبنان، وما هي إخفاقات نهج “حزب الله” في بناء الدولة.

جدلية في الواقع اللبناني

جدلية كبيرة في الواقع اللبناني حول وجود “حزب الله” والدولة اللبنانية، وهل أنّ “حزب الله” فعلاً لديه استراتيجية لها علاقة ببناء الدولة في لبنان، وهل هناك دولة في لبنان في الأصل حتى نتحدث عن الدولة بالمكونات الحديثة أو الدولة العصرية.

كل الذين يتابعون الواقع اللبناني يدركون تماماً أنّ النظام اللبناني منشأه منشأ غير طبيعي، وهو بصرف النظر عن الأسباب التاريخية التي أدت إلى ولادة هذا الكيان بعد التقسيمات التي حدثت في “سايكس بيكو” والنظام اللبناني الذي منح من قبل الدولة المستعمرة للمنطقة ممثلة بفرنسا على الأراضي اللبنانية التي ذهبت باتجاه إنشاء كيان له علاقة بالمحاصصة الطائفية، فكانت الطائفة الشيعية في الغالب خارج هذا الاندماج بالمعنى الدقيق للكلمة.

هذا ما يؤكدّ عليه الكاتب والمحلل السياسي اللبناني، فيصل عبد الساتر، في تصريحات لـ”الحل نت”، الذي يرى بأنّ أقل عدد تمثيلي لممثلي طوائف لبنان كان للشيعة، مشيراً إلى أنّ النظام الأول بدأ منذ ما بعد 1860 والذي رافقه عملياً المجازر التي حدثت بين المسيحين والدروز في جبل لبنان.

بعد ذلك بدأ نظام المتصرفية، ثمّ بعد ذلك تعاقب الأمر وصولاً إلى دولة لبنان الكبير وبعد ذلك في عام 1920 عندما ضمت بعض الأقاليم الأخرى إلى الكيان اللبناني بعد أن كان متمثلاً في جبل لبنان وبيروت، وضمت بعض الأقاليم الأخرى كالجنوب والبقاع إلى الداخل اللبناني، ولدى الوصول إلى عام 1943 بدأ النظام السياسي يعمد على تعزيز بنية الطائفية داخل النظام اللبناني.

عبد الساتر يشير إلى أنّ حروب عديدة وخضات اجتماعية كبرى مرّ بها لبنان، وصولاً إلى الحرب الأهلية في عام 1975 والتي جاءت على خلفية النظام الطائفي الذي أخذ في تغوله على حساب الطبقات الكادحة من اللبنانيين، فبعيد الحرب اللبنانية التي انتهت عملياً بـ “اتفاق الطائف” الذي كان برعاية أميركية-سورية-سعودية هدأت الحرب في لبنان على مستوى المجموعات اللبنانية.

لكنّ الحرب لم تنتهِ في لبنان باعتبار أنّ العامل الإسرائيلي كان جزءاً أساسياً في كل هذه الحروب، ثمّ نشأت المقاومة في لحظة كانت الدولة فيها منهارة بشكل كامل عندما اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1982 وأدى ذلك إلى إنتاج رئيسيين للجمهورية متتالين أحدهما تمّ اغتياله وهو الرئيس بشير الجميل قبل أن يتسلم مهامه، بعد ذلك انتخب الرئيس أمين الجميل شقيق بشير الجميل.

حيث يعتبر عبد الساتر أنّ هذا الحدث كان حدثاً مقبولاً من كل اللبنانيين، لكن الحقيقة أنّه في عهد الرئيس أمين الجميل بدأت الحروب مجدداً وبدأت الدولة اللبنانية تنسلخ شيئاً فشيئاً وصولاً إلى “اتفاق الطائف” عام 1989-1990 والتي أفرزت واقعاً جديداً كرست فيه الطائفية السياسية والطائفية بمعنى الحصص داخل النظام اللبناني.

 هذا كله تسبب بالكثير من الأمراض التي ساهمت أيضاً في اضعاف الدولة اللبنانية كما هو الحال الآن في لبنان بعد اغتيال الرئيس الحريري عام 2005 وبعد ذلك حرب 2006، وبعد ذلك بدأت الحرب في المنطقة تحت مسمى “الربيع العربي” كل هذا كان يمشي والدولة اللبنانية تفقد كل عناصر قوتها بحسب رؤية عبد الساتر، لأنّها لم تعد قادرة على أن تكون دولة لكل المواطنين اللبنانيين وهي بالأصل دولة “معتورة” لأنّها قائمة على البنيان الطائفي.

“حزب الله” الأكثر قوة وتسليحاً

“حزب الله” اللبناني ومنذ عقود الذي ظل يتصدر واجهة الذراع الإقليمية لإيران الأكثر قوة وتسليحاً، والأكثر نفوذاً داخل الدولة اللبنانية وامتداداته العابرة للحدود في سوريا والعراق والذي يلعب ممثله الرسمي محمد كوثراني المقيم بين بغداد والنجف دوراً بارزاً في كل ما يتعلق بالمجموعات الشيعية المسلحة الحليفة لإيران وأجنحتها السياسية الممثلة في “الإطار التنسيقي” الذي يقود حكومة محمد شياع السوداني.

منذ موافقة الحزب على قرار مجلس الامن 1701 لسنة 2006 والذي أنهى عملياً الصراع المسلح بين الحزب وإسرائيل، لم يعد للحزب أي دور في مواجهة إسرائيل خارج نطاق الخطابات الإعلامية التي لا تزال قطاعات واسعة من الجمهور العربي مؤمنة بهذا الخطاب ومؤمنة بأنّ الحزب فعلا يتصدى لإسرائيل.

لكن الواقع بحسب ما يذهب إليه الكاتب والباحث السياسي في شؤون الجماعات وقضايا التطرف رائد الحامد، أنّ الحزب يعيش حالة سلام متكاملة مع إسرائيل تجلت آفاقها بوضوح في اتفاقية ترسيم الحدود التي وقعتها الحكومة اللبنانية مع إسرائيل والتي ينظر اليها بأنّها حققت لإسرائيل مكاسب لم تحلم بها، فيما لم يعترض الحزب عليها.

الحامد يضيف في حديثه لـ”الحل نت” قائلاً: “الحزب الذي يفرض نفوذه بقوة السلاح وينفذ الأجندات الإيرانية في عموم المنطقة بما فيها في اليمن حيث يتواجد عشرات الخبراء والمستشارين إلى جانب جماعة الحوثي، هذا الحزب الذي يتمتع بنفوذ طاغ في جميع مراكز القرار اللبناني الأمني والسياسي والاقتصادي والعسكري حيث لا يزال الحزب وحده يملك قرار الحرب والسلم دون أي تنسيق مع الدولة اللبنانية بمعنى أنّ الحزب لم يعد توصيفه بأنّه دولة داخل الدولة اللبنانية، إنّما هو الدولة اللبنانية”.

العديد من الدول ومنها دول خليجية ظلت لسنين طويلة تقدم مختلف أنواع المساعدات للدولة اللبنانية، لكنها أدركت أنّ مساعداتها تذهب في معظمها لـ”حزب الله” الذي امتهن زراعة وإنتاج وتهريب مختلف أنواع المخدرات على حد وصف الحامد، التي بدت تشكل خطراً حقيقياً على المجتمعات الخليجية في استهداف واضح لهذه المجتمعات إلى جانب ما يجنيه الحزب من مليارات الدولارات سنويا جراء ذلك.

لذلك فإنّ تلك الدول في الغالب بحسب ما يشير إليه المحلل السياسي الحامد، باتت تشترط التزام “حزب الله” باحترام مؤسسات الدولة اللبنانية والتخلي عن مشروع تخريب المجتمعات الخليجية عبر إغراقها بالمخدرات، مقابل استئناف المساعدات للدولة اللبنانية التي تراجع اقتصادها إلى مستويات مخيفة، منوهاً إلى أنّ الحزب يدرك أنّه المتسبب الأول في هذه الأزمة المستعصية، ومع هذا يصر على تغليب مصلحة المشروع الإيراني على مصالح الدولة اللبنانية.

لكنّ الحامد يرى بأنّ الانفتاح الخليجي على إيران سينعكس إيجاباً على علاقة “حزب الله” مع الدول الخليجية بإيعاز من ايران لتخفيف حدة عداء الحزب لهذه الدول وليس استجابة لشروط المصالحات الخليجية الإيرانية، وذلك لأنّ إيران تاريخياً لا ترضخ لأي شروط، ومع هذا فإيران ستقدم بعض التطمينات للدول الخليجية دون أن تقدم أي ضمانات ملزمة، مؤكداً بأنّها قادرة على التنصل من المسؤولية حتى في حال أعاد حلفاء إيران استهداف منشآت “أرامكو” وبإشراف “الحرس الثوري” وتنفيذ المجموعات الشيعية المسلحة المرتبطة به.

بعد اغتيال الحريري برز الخلاف اللبناني

بعيد اغتيال رفيق الحريري برز الخلاف اللبناني على أشده بين مجموعات في الداخل اللبناني وبدأت تتحدث عن أنّ المقاومة تشكل حالة شاذة في واقع الدول المعاصرة، وأنّه لا يمكن أن يكون هناك على اعتبار منطقهم دويلة داخل الدولة، فكانت هذه الذريعة دائماً منصة لإطلاق النار السياسي على “حزب الله” ومشروعه السياسي وأنّ كل ما تقوم به يبقى دائماً محل اتهام بأنّ ذلك يقوض مهام الدولة وأنّ ذلك على حساب الدولة ويضعفها.

هذا الأمر بحسب رؤية المحلل السياسي اللبناني عبد الساتر، لم يأتِ من فراغ، وإنّما جاء بسبب خلفيات سياسية لها علاقة بالأبعاد الخارجية والذي يريد للبنان أن يكون ضمن دوائر معينة على مستوى الإقليم،  مشيراً إلى أنّ رؤية “حزب الله” الذي يؤمن بعقائدية القضية الفلسطينية والعقائدية الدينية والتي هي فوق العقيدة الوطنية والقومية، الأمر الذي يبرز عقيدة مركبة واحدة لها علاقة بالبعد الوطني من جهة وبالبعد القومي من ناحية ثانية وبالبعد العقائدي من جهة ثالثة، وهذا ما يرفضه البعض في لبنان، إذ أنّهم بحسب رؤية عبد الستار يريدون فصل لبنان عن باقي المنطقة ولا يعترفون بقومية القضية أو بعقائدية القضية.

في معرض تفسير لهذه الظاهرة قال عبد الساتر: “هذا الأمر انسحب على السلوك السياسي لعموم القوى السياسية في لبنان، لأنّه في غياب تشكل الهوية الوطنية فيما له علاقة بتحديد العداء والأصدقاء تبقى الأمور مفتوحة على احتمالات كبيرة، وهذا ما يفسر الانقسامات السياسية داخل لبنان حول العديد من الملفات، فالفرصة التي كانت متاحة بعيد التحرير عام 2000 ربما لم يعمل عليها ولم يشغل عليها بالشكل المطلوب لإعادة صياغة الهوية الوطنية من كيان كان لا يتعاطى الشأن المباشر في القضية الفلسطينية باعتبار أنّ لبنان كان خارج منطوق الصراع إلى لبنان الذي هزم إسرائيل، فهناك تغيير جذري حدث في هذا الإطار”.

ما واجهته الساحة اللبنانية من مشكلات بعيد هذه الأحداث الكبيرة والتي أصبح لبنان فيها على مشارف نقلة جديدة على المستوى السياسي، بل أنّ بذور الانقسام كانت لاتزال موجودة وثمّ تفاعلت أكثر فأكثر بعد العديد من المحطات الأخرى وهذا كله في إطار مشاركة معظم أقطاب الحرب الأهلية اللبنانية في اللعبة السياسية، إذ أنّ أمراء الحرب أصبحوا أمراء السلم وأصبحوا قادة الدولة بالشراكة مع الوجود والتدخل السوري المباشر الذي كان يرعى كل الأمور السياسية في لبنان.

الافتراق الكبير الذي حدث أيضاً  في لبنان في عام 2004 بعد قرار التمديد لرئيس الجمهورية السابق إيميل لحود والذي قسم الواقع السياسي اللبناني، ثمّ بعد ذلك أخرج الحريري من المعادلة المباشرة في رئاسة الحكومة وصولاً إلى اغتياله عام 2005، وهنا حدث الافتراق الأخطر في تاريخ الدولة اللبنانية المعاصرة وانقسم اللبنانيون وكاد الأمر أن يتحول إلى فتنة مذهبية عمياء، والواقع يؤكدّ أنّ الجميع في لبنان لم يعمل على بناء الدولة بمعنى دولة المواطن، والجميع كان يحافظ على دولة ذات مرجعيات طائفية بالمعنى السياسي التي أكلت من رصيد الدولة المعاصرة، وبالتالي باتت البلاد أمام حالة غير محددة المعالم.

يمكن القول أنّ لبنان يواجه تحديات كبيرة أوى من ظروف نشأته وملابسات تكوينه، لأنّ النظام الطائفي يغلب على كل الكيانات السياسية الأخرى، وهذا ما بات يسمى في لبنان نظام التوافق الطائفي أو ما يعرف بـ”الميثائقية الطائفية”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات