في خضم دخول الأزمة السودانية أسبوعها الثاني، واحتدام الصراع العسكري الداخلي على عدة جبهات في البلاد، وتضرر المطارات ومن ثم إغلاقها، قامت دول كثير بنقل رعاياها خارج البلد الإفريقي المشتعل، فيما لا تزال جهود عمليات إجلاء الرعايا مستمرة، وذلك بعد تقطّع السبل بآلاف الأجانب، ومن بينهم دبلوماسيون ورعايا دول وموظفو إغاثة.

عمليات الإجلاء أو الإعداد له، تجري منذ يوم أمس الأحد، حيث شملت عددا كبيرا من الدول، من بينها السعودية والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا، غير أن بعض عمليات الإجلاء تواجه مشكلات في ظل القتال الدائر بالعاصمة الخرطوم، كما استُخدمت في عمليات الإجلاء سبل النقل البحري والجوي والبري.

بعض المحللين فسّروا عمليات الإجلاء المكثفة هذه لعدد كبير من الدبلوماسيين ورعايا الدول الإقليمية وغير الإقليمية على أنها مؤشر على تطور الصراع الذي اندلع في السودان منذ حوالي 9 أيام بين “الجيش السوداني” و”قوات الدعم السريع”. من هنا كان لابد من طرح بعض التساؤلات حول ذلك، وما دلالة إجلاء الدول لرعاياها بشكل عاجل من السودان، وإذا كان ذلك يعني أن الصراع يزداد سوءا أم ماذا، بالإضافة إلى تداعيات عمليات الإجلاء هذه، والسيناريوهات المتوقعة للصراع المحتدم هناك، وإذا ما ثمة بوادر مفاوضات تؤدي إلى اتفاق يوقف سفك الدماء هناك أم ماذا.

عمليات إجلاء واسعة من السودان

نحو ذلك، قال “الجيش السوداني” في بيان مقتضب، يوم السبت الماضي، إن الجيش وافق على تسهيل إجلاء رعايا ودبلوماسيين من عدد من الدول من بينها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والصين وكندا. وذكر الجيش في بيانه، الذي نشره على صفحته على منصة “فيس بوك” “تلقى القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان اتصالات من رؤساء عدد من الدول، لطلب تسهيل وضمان تأمين إجلاء رعاياها وبعثاتها الدبلوماسية من البلاد، وقد وافق البرهان على تقديم المساعدة اللازمة لتأمين ذلك لمختلف الدول”.

محاولات عاجلة لإجلاء رعايا دول عربية وأوروبية من السودان “أ ف ب”

في حين أعلن مطار الخرطوم الدولي تمديد إغلاق المجال الجوي السوداني أمام حركة الطيران حتى نهاية نيسان/أبريل الجاري، نتيجة تحوله لساحة حرب بين طرفي الصراع، تجري عمليات إجلاء عدة عبر ميناء بورتسودان على البحر الأحمر الواقع على بعد 850 كيلومترا من العاصمة الخرطوم، كما وتشكل جيبوتي محطة أساسية لعمليات الإجلاء الجوي، إذ تحط فيها طائرات عسكرية تنقل الرعايا من السودان.

في إطار أول مراحل تنفيذ خطط إجلاء الرعايا والدبلوماسيين الأجانب من السودان، أعلنت السعودية بإجلاء رعاياها وبعض رعايا 11 دولة أخرى يوم السبت الماضي، عبر البحر الأحمر إلى مدينة جدة، ثم أعلنت الولايات المتحدة يوم أمس الأحد، أنها علّقت العمل في سفارتها بالخرطوم، وأجلت جميع موظفيها وعائلاتهم عبر طائرات حربية، بينها هليكوبتر من طراز “إم إتش – 47 شينوك”، انطلقت من قاعدة أميركية في جيبوتي، وقضت ساعة واحدة على الأرض في السودان للإجلاء. وأعرب الرئيس الأميركي جو بايدن عن شكره لكلّ من السعودية وجيبوتي وإثيوبيا لمساعدتهم في هذه العملية. كما وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في بيان “سنواصل مساعدة الأميركيين في السودان لضمان سلامتهم. سنواصل أيضا الضغط لتوسيع نطاق وقف إطلاق النار؛ لمنع مزيد من الضرر للدولة السودانية”، وفق ما نقلته صحيفة “الشرق الأوسط“.

عمليات الإجلاء هذه شملت عددا كبيرا من الدول، من بينها بريطانيا وكندا والسويد واليابان وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا والأردن ولبنان والعراق وتركيا، وفيما أجرت بعض الدول عمليات إجلاء من مطار الخرطوم، إلى جانب دولة جيبوتي عبر قواعدها العسكرية هناك، لا تزال جهود عمليات الإجلاء مستمرة حتى الآن.

قد يهمك: الصراع في السودان.. حسابات الخسارة والنتائج الكارثية؟

الباحث والأكاديمي السياسي، عبد السلام القصاص، يقول إن وتيرة إجلاء الرعايا الأجانب من السودان تسارعت لأسباب عدّة أولها؛ عادة في الحروب والنزاعات العسكرية المباغتة تقوم الدول بإجلاء مواطنيها حفاظا على أرواحهم حتى تهدأ الأوضاع، ويحدث ذلك كأمر طبيعي إذا تجاوز أي صداع عسكري عنيف لعدة أيام في أي بلد ما، إلا أنه حتى الآن غير مفهوم تماما وتيرة تسارع إجلاء الرعايا الأجانب في السودان، في ظل استمرار المعارك داخل العاصمة الخرطوم فقط. لكن من المؤكد أن هذه الخطوة تأتي في إطار طمأنة شعبهم والاهتمام بسلامتهم وأمنهم، وبطبيعة الحال هذا من ضمن واجبات كل الدول.

من ناحية ثانية، قد يشير هذا الإجلاء إلى أن الموجة القادمة من العنف ستكون كبيرة جدا هناك، وأن الوضع في الخرطوم غير مستقر ومتصاعد وغير واعد في الواقع، خاصة في ظل عدم التزام الأطراف بالهدنة الأخيرة. والغطاء الذي شكّلته البعثات الدولية سيكون له آثار سلبية على السودان، حيث سيواجه السودان مصيره بمفرده، وبالتالي لا يمكن التغاضي عن أنه مؤشر خطير يدلل على أن الصراع بات ينزلق صوب الأسوأ، على حدّ تقدير القصاص لموقع “الحل نت”.

عمليات الإجلاء تتواصل من السودان لليوم الثالث على التوالي “رويترز”

في سياق متّصل، حذّرت “نقابة أطباء السودان” من تداعيات إجلاء الأجانب من البلاد، وأضافت “سيزيد الخطر على المواطنين العزل”، وأن إصرار الدول على إجلاء رعاياها من السودان دلالة على فشل المطالبة بوقف إطلاق النار، وأن تلك الدول تتوقع استمرار النزاع المسلح وامتداده إلى الأحياء السكنية.

دور استراتيجي هام لجيبوتي

اللافت في عملية إجلاء الرعايا الأجانب في السودان، أنها تمت من خلال جيبوتي، حيث برزت الأخيرة خلال الأيام الماضية كقوة استراتيجية جديدة أمام عدد كبير من الدول لنقل رعاياها خارج السودان، ومثّلت جيبوتي محطة مهمة بالنسبة للدول في نقل الرعايا، لأسباب جغرافية وسياسية أيضا.

السبت الماضي أعلنت عدة دول منها الولايات المتحدة، واليابان وكوريا الجنوبية إرسال تعزيزات إلى قواعدها العسكرية داخل جيبوتي لنقل رعاياها من السودان. فعلى الرغم من صغر مساحتها، تملك جيبوتي أحد أبرز المواقع الاستراتيجية في منطقة القرن الإفريقي، بقربها من مضيق “باب المندب” الأبرز والأهم للتجارة العالمية.

حتى الآن أعلنت دول عدة إتمام عمليات إجلاء المواطنين ودبلوماسيين من السودان، بما فيها واشنطن وكندا، وفرنسا وإيطاليا وهولندا وألمانيا وإسبانيا واليونان وسويسرا وأيرلندا والسويد وبريطانيا والنرويج وبولندا وتركيا ومصر والسعودية والأردن والعراق ولبنان وليبيا وتونس. كما وتستعد دول أجنبية أخرى لعمليات إجلاء من بينها كوريا الجنوبية واليابان والهند وإندونيسيا والصين.

في السياق، أعلن السفير الروسي في الخرطوم، أندري تشيرنوفول، أن 140 شخصا أكدوا للسفارة الروسية الرغبة في مغادرة السودان عن طريق سفارة روسيا، مشيرا إلى أن القائمة تتزايد بسبب طلبات مواطني دول رابطة الدول المستقلة وعدد من الدول الأخرى. وقال السفير الروسي لوكالة “سبوتنيك” الروسية للأنباء، اليوم الاثنين، “القائمة التي نأخذها في الاعتبار من المواطنين والدبلوماسيين الروس، وهي نحو 300 شخص”. وأوضح أنه حتى الآن، أعرب نحو 140 شخصا من غير الروس عن رغبتهم في الإجلاء.

ميدانيا ووسط استمرار عمليات الإجلاء بضمان الطرفين المتصارعين، أي قائد “الجيش السوداني” عبدالفتاح البرهان وقائد “قوات الدعم السريع” محمد حمدان دقلو، المعروف بـ”حميدتي”، تشهد الخرطوم اليوم الاثنين هدوءا حذرا، فيما أفادت أنباء بانقطاع واسع لخدمة الإنترنت في البلاد.

لكن رغم ذلك، يقول مراقبون إن الدول تخشى من تعرّض رعاياها للمخاطر في ضوء عدم إنهاء الصراع هناك بين الأطراف المتنازعة، لذلك تحشد جهودها من أجل إعادتهم.

القصاص يرى أن حماس “الجيش السوداني” و”قوات الدعم السريع” لإجلاء الرعايا الأجانب وتقديم ضمانات حفاظا على سلامتهم، يشير إلى أن عمليات الإجلاء لا تلزم إخلاء جميع المواطنين، وقد يتم إجلاء معظمهم لكن ليس جميعهم، وبالتالي ومن المتوقع أن تعمل السفارات بإبقاء عدد محدود من الأطقم داخل السودان، من أجل إقامة قنوات اتصال مع البرهان وحميدتي بشكل مستمر ومتواصل من أجل التوصل إلى هدنة لوقف إطلاق النار.

السيناريوهات المتوقعة

في المقابل، حذرت “الأمم المتحدة” من أنه “في حين يفرّ الأجانب القادرون على ذلك يزداد تأثير العنف على الوضع الإنساني الحرج أساسا في السودان”. كذلك ناشدت “نقابة الأطباء السودانية” لجنة المجتمع الدولي والإقليمي للضغط على طرفي النزاع لوقف هذا الصراع الدموي بصورة عاجلة وتجنيب البلاد شر الانزلاق لهاوية الانهيار الشامل.

كما حثّت “نقابة الأطباء السودانية” المجتمع الدولي على العمل للوصول إلى وقف شامل لإطلاق النار والضغط لإنفاذ المعايير الدولية فيما يتعلق بحماية المدنيين وتقديم الدعم الضروري لهم.

بالعودة إلى القصاص، فإن التوصل لحل للأزمة السودانية ضعيف، ومن خلال استمرار المعارك هناك يتضح أنه لا توجد فرص للتوصل إلى تسوية أو اتفاق لوقف إطلاق النار، حيث يظل هذا خاضعا لقرارات الجنرالين البرهان وحميدتي، ومدى استعدادهم لإنهاء هذه الأزمة وتحمّل مسؤولياتهم تجاه البلاد، ولا شك أن الدول الكبرى لن تتوقف عن التواصل مع الطرفين للوصول إلى تهدئة ما لوقف إراقة الدماء.

من جانب آخر ثمة ارتباك في المواقف بين “الجيش السوداني” و”الدعم السريع”، حيث أكّد الأول على ضرورة الجلوس على طاولة المفاوضات، وهذا يعني أن البرهان لا يريد أن يتحول الصراع إلى حرب أهلية أخرى في السودان، ويحافظ على الأرواح والبنية التحتية، خاصة وأن “الدعم السريع” ليست جهة حكومية رسمية، بل تُعتبر مجرد فصيل مسلح، ويسعى للإطاحة بالسلطة الشرعية هناك، ومن هنا فُرص التفاوض ضئيلة وصعبة مع طرف يعتبر السلاح أهم أدواته، على حد تعبيره.

مع استمرار المعارك هناك، لا يمكن اعتبار أي طرف قادر على الالتزام بأي هدنة أو اتفاق، خاصة أنه لم يتم الالتزام بالهدنة الأخيرة، ومعظم التصريحات التي أدلى بها الطرفان، سواء كانت تدعو إلى التفاوض أو الالتزام بهدنة، شكلية وتأتي في إطار كسب ثقة المجتمع الدولي وإظهار الجانب الآخر أنه غير ملتزم وليس أكثر من ذلك، خاصة أن هناك خلافات في المواقف من قبل أطراف النزاع، وبالتالي فرض التفاوض وإنهاء الأزمة في البلاد شبه مستبعد على الأقل في الفترة الحالية والبلاد تتجه نحو تأزيم أكثر، وفق ما يحلله القصاص.

إجمالا، ما يحدث في السودان يدعو إلى التخبط والخوف، بجانب قيام معظم الدول بإجلاء رعاياها بهذه الوتيرة السريعة واستمرار المعارك وما يترتب على ذلك من فوضى أمنية. وفي المقابل، تم تحرير آلاف السجناء، بمن فيهم قتلة وتجار مخدرات ومغتصبين، فإن الأمر برمته يدعو للقلق، بل وينذر بدخول البلاد إلى حرب أهلية أخرى، طويلة الأمد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات