عندما يتعلق الأمر بالهيمنة المالية والاقتصادية العالمية، فإن خطط تحالف “البريكس” لإطلاق عملة موحدة جديدة لتحدي الدولار الأميركي تبدو كخطوة جريئة ومثيرة للجدل. تتضح رؤية هذه الكتلة المكونة من خمس دول هي، البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، في تكوين عملة قوية ومستقلة قادرة على تحقيق الاستقلالية المالية والتحكم في الأسواق العالمية.

لكن قبل شهر واحد فقط من القمة المقبِلة لتحالف “البريكس”، تظهر علامات الانشقاق والشكوك تجاه نجاح هذه الخطط الطموحة. حيث بدأ وزير الخارجية الهندي بإخبار العالم بموقف الهند، حيث أشار إلى أن بلاده قد تتراجع عن المشاركة في تشكيل العملة الجديدة، إذ من بين أسباب قلق الهند تأتي الصين التي تستخدم تحالف “البريكس” لصالحها الذاتي وتسعى جاهدة للسيطرة على الساحة العالمية.

وبمفارقة مثيرة، تأتي التصريحات المشابهة من ليزلي ماسدورب، نائبة رئيس بنك “التنمية الجديد” المصرف المشترك لتحالف “البريكس”، حيث أكدت أن تطوير أي بديل للدولار الأميركي هو تطلع قصير الأجل، مما يعكس التحديات الكبيرة التي تواجهها الكتلة في محاولتها لتحقيق الاستقلال المالي.

يبدو أن فكرة العملة الجديدة التي من المفترض أن تهدد الدولار المدعوم بالائتمان قد ماتت قبل ولادتها، ولكن ما يثير التساؤلات، العوامل التي تسببت في ظهور خلافات داخل تحالف “البريكس” قبل القمة المقبِلة، ولماذا تعبّر الهند عن قلقها بشأن استخدام الصين لمجموعة لصالحها الذاتي وجهودها في السيطرة على العالم.

انقسام داخل التحالف المشبوه

من نيسان/أبريل وحتى حزيران/يونيو 2023، زادت قائمة البلدان المستعدة للانضمام إلى تحالف “البريكس” وقبول العملة من 19 إلى 41 دولة. في حين عبّرت 22 دولة جديدة عن اهتمامها بدخول الكتلة والتخلي عن الدولار الأميركي في غضون شهرين. وذلك قُبيل عقد قمة “البريكس” المقبلة في آب/أغسطس بجنوب إفريقيا، حيث ستقرّر الكتلة المكونة من خمس دول مجتمعة تشكيل عملة جديدة.

صورة جماعية لقادة مجموعة "البريكس" - إنترنت
صورة جماعية لقادة مجموعة “البريكس” – إنترنت

لكن وعقب التداول الإعلامي للعملة الجديدة وإمكانية طرحها، كشفت نائبة رئيس بنك “بريكس”، أنه “لا يوجد اقتراح الآن لإنشاء عملة بريكس”. وعلى ما يبدو أن سفراء “البريكس” يتراجعون شيئا فشيئا عن فكرة إطلاق عملة جديدة. ومع ذلك، حاولت ماسدورب طمأنة حلفائها بأن فكرة الاستحواذ على الدولار الأميركي ستظل هدفا طويل المدى. لذلك، إذا فشلت عملة “البريكس”، فستجد الكتلة وسائل جديدة أخرى لإيجاد عملات بديلة للمعاملات العالمية.

ليس ذلك فحسب، فخلال مؤتمر صحفي عُقد يوم الاثنين الفائت، لفت وزير الشؤون الخارجية الهندي، سوبرامانيام جايشانكار، إلى أن الهند ليس لديها خطط لعملة الـ “بريكس”، ملمّحا إلى أن الهند قد تتراجع عن إنشاء العملة الجديدة.

جايشانكار أشار إلى أن الهند تركز على تعزيز عملتها الوطنية الروبية. وذكر أن تعزيز الروبية سيكون على رأس أولويات حكومة مودي، مبينا أن العملة الهندية ستظل قضية وطنية وليس عملة الـ “بريكس”. ويأتي ذلك كون الهند تتمتع بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة وأوروبا من خلال صفقات تجارية وعسكرية بمليارات الدولارات. لذلك، لا تريد الدولة المخاطرة بتجارتها مع القوى الغربية.

من ناحية أخرى، تشعر الهند بالقلق من تنامي القوة في الصين وتظل متيقظة من الدولة الشيوعية التي تستخدم الـ “بريكس” لمصلحتها الذاتية. حيث أصبح تحالف الـ “بريكس” متمحورا حول الصين، مما يجعل الدولة الشيوعية هي المستفيدة من الصفقات التجارية الدولية. 

صحيفة “هندوستان تايمز”، لمحت وبوضوح إلى أن الصين بما تتمتع به من ثقل اقتصادي وسياسي سوف تتفوق على كل عضو في التحالف. مضيفة أن الهند تواجه التحدي المتمثل في استخدام بكين لهذه المنصات لنشر رؤية الرئيس شي جين بينغ.

الصين تفرض على العديد من الدول المنضمة للتحالف تسوية التجارة باستخدام “اليوان” الصيني، وهذا يثير مخاوف الهند من أن التجارة العالمية أصبحت تتمحور حول الصين لأن الدولة الشيوعية هي المتلقية للصفقات الدولية. لذا ظلت الصين والهند على خلاف منذ أكثر من عقد على الرغم من التقائهما معا في مجموعة الـ “بريكس”، وتوّج هذا الخلاف عندما حظرت الهند سابقا البضائع الصينية من دخول البلاد وفرضت حظرا على التطبيقات الصينية بما في ذلك “تيك توك” و”شي إن”.

لا تغيير لقواعد اللعبة

في غضون شهر فقط، ستُعقد قمة “بريكس” 2023 المرتقبة للغاية، و من المفترض أن تكشف النقاب عن عملة رقمية مدعومة بالذهب، والتي يعتقد أعضاء التحالف أنها ستغير قواعد اللعبة ولديها القدرة على إعادة تشكيل مشهد المدفوعات العالمية. 

مجموعة "بريكس" تتفق على توسيع استخدام العملات الوطنية - إنترنت
مجموعة “بريكس” تتفق على توسيع استخدام العملات الوطنية – إنترنت

الباحث في سياسيات النمو الاقتصادي، ديف فالير، أوضح لـ”الحل نت”، أنه يمكن أن تُعزى الخلافات الناشئة داخل تحالف “البريكس” قبل القمة المقبلة إلى عدة عوامل. أولا، لكل دولة مصالحها وأولوياتها الوطنية، والتي قد لا تتوافق دائما مع الأهداف الجماعية للتحالف. يمكن أن يؤدي هذا إلى خلافات ووجهات نظر متباينة حول القضايا الرئيسية مثل تشكيل عملة موحدة. 

أما الأمر الثاني بحسب فالير، تلعب ديناميكيات القوة داخل التحالف دورا، حيث تسعى الاقتصادات الأكبر مثل الصين والهند إلى تأكيد نفوذها وحماية مصالحها الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، أثارت المخاوف بشأن مركز الصين المهيمن وإمكانية إساءة استخدام التحالف لمصلحتها الخاصة الشكوك بين الدول الأعضاء الأخرى.

إن تعبير الهند عن قلقها بشأن استخدام الصين لدول “البريكس” لمصلحتها وجهودها للسيطرة على العالم ينبع من عدة وجهات نظر حقيقة. فطبقا لحديث فالير، فإن هناك توترات جيوسياسية ونزاعات حدودية بين الهند والصين، مما أدى إلى توتر العلاقات الثنائية بينهما. 

أيضا ترى الهند نفوذ الصين داخل دول “البريكس” كوسيلة لتعزيز هيمنتها الإقليمية والعالمية، مما قد يؤدي إلى تهميش مصالح الهند. بالإضافة إلى ذلك، تهدف الهند إلى تحديد أولويات عملتها المحلية الروبية، وتعزيزها بدلا من الاعتماد على العملات الأخرى. وقد يُنظر إلى هذا على أنه وسيلة للحفاظ على السيطرة على سياستها النقدية وحماية سيادتها الاقتصادية.

داخل بلدان الـ “بريكس” مثل البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، هناك أصوات متعالية تزداد لتحدي هيمنة الدولار، فالزعيم الروسي فلاديمير بوتين، ذكر في حزيران/يونيو الماضي، إن دول الـ “بريكس” تعمل على تطوير عملة احتياطية جديدة على أساس سلة عملات للدول الأعضاء فيها. ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، صرح في كانون الثاني/يناير الفائت، أن القضية ستُناقش في قمة جنوب إفريقيا بنهاية آب/أغسطس القادم.

أفضل تفسير لبيان روسيا بحسب فالير، هو بادرة طاعة روسية للصين ورغبة في تقويض الولايات المتحدة. لكن بعيدا عن كونها منطقة مثالية لطرح عملة، تختلف الاقتصادات اختلافا كبيرا من حيث التجارة والنمو والانفتاح المالي. ففي حين أن الأداء الاقتصادي لروسيا كان من الواضح أنه الأضعف بين دول الـ “بريكس” الخمسة العام الماضي، أيضا كافحت البرازيل وجنوب إفريقيا لمواجهة أسعار السلع التي تدعم أسعار الفائدة المنخفضة والائتمان المحلي المتزايد.

لذا من الواضح أن المصالح الاستراتيجية الصينية لا تتماشى بشكل خاص مع مصالح الدول الأخرى. حيث تتمثل إحدى أولويات الصين في إيجاد مكان ما لإيقاف فوائضها الخارجية بعيدا عن متناول مكتب الولايات المتحدة لمراقبة الأصول الأجنبية والعثور على مخازن ذات قيمة بخلاف سندات الخزانة الأميركية. وبينما لا يمكن لأي من أعضاء “بريكس” الأربعة الآخرين توفير أصول سائلة، يمكنهم توفير فرص استثمارية خاصة في المواد الخام. كما هو الحال مع مبادرة “الحزام والطريق”، وهنا تفضل السلطات الصينية السيطرة على مثل هذه الأمور، وهذا ما تتخوف منه الهند.

فكرة خاطئة

روسيا ودول الخليج المصدّرة للطاقة تفضل حاليا تجميع صناديق الثروة السيادية بعيدا عن الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن البديل عن الولايات المتحدة ليس مجموعة متنوعة من البلدان النامية، وهنا يظهر أن دولة واحدة لديها تعطش كبير للطاقة والمواد الخام الأخرى، وهي الصين. لذلك لا توجد فقط تحديات عملية في عملة “بريكس” المشتركة؛ بل في سعيهم لتحدي الهيمنة الأميركية في النقد الأجنبي، قد يزيد الأعضاء غير الصينيين في دول المجموعة من اعتمادهم على بكين.

رئيس بنك "التنمية الجديد" والمدير التنفيذي للصندوق التابع لمجموعة "بريكس" - إنترنت
رئيس بنك “التنمية الجديد” والمدير التنفيذي للصندوق التابع لمجموعة “بريكس” – إنترنت

الخبير الاقتصادي، عبد الله الشناوي، بيّن لـ”الحل نت”، أنه قد تواجه خطط تحدي الهيمنة العالمية للدولار الأميركي من خلال تحالف “البريكس” تحديات كبيرة. إذ يتمتع الدولار الأميركي بموقع مهيمن في التجارة العالمية والمعاملات المالية، مدعوما بقوة الاقتصاد الأميركي ودور “الاحتياطي الفيدرالي” الأميركي. 

لتحدي هذه الهيمنة بنجاح، سيحتاج تحالف الـ “بريكس” إلى التغلب على العديد من العقبات، من ضمنها إنشاء عملة موحدة مقبولة وموثوقة على نطاق واسع، وضمان الاستقرار وقابلية التحويل، وإدارة التضخم والسياسة النقدية، وبناء الثقة الدولية في العملة؛ وهذا حاليا ليس متوفر لدى الدول الأعضاء بسبب الديناميكيات الجيوسياسية بين دول الـ “بريكس”.

علاوة على ذلك، يواجه تحالف الـ “بريكس” عدة تحديات في القضاء على الدولار الأميركي كعملة معاملات عابرة للحدود. بداية من قبول الدولار الأميركي واستقراره على نطاق واسع عالميا يجعله العملة المفضلة للعديد من البلدان والشركات الدولية. 

أيضا يتطلب إنشاء عملة بديلة يمكن أن تتناسب مع مدى وصولها وموثوقيتها جهودا كبيرة وبناء الثقة، وهو ما تفتقده بعض الدول المشاركة بالتحالف، بحسب الشناوي. بالإضافة إلى ذلك، فإن التحول من الدولار الأميركي إلى عملة جديدة سيشمل تعقيدات لوجستية وتشغيلية كبيرة، بما في ذلك تجديد النظم المالية العالمية، وإعادة التفاوض بشأن الاتفاقيات التجارية، وبناء توافق في الآراء بين الدول الأعضاء ذات المصالح الاقتصادية والسياسية المتنوعة.

طبقا للمعطيات، فإن الشناوي يرى أن الصين بصفتها عضوا مهيمنا في تحالف الـ “بريكس”، تعمل بنشاط للاستفادة من المجموعة والسعي لتحقيق مصالحها الخاصة. حيث تعمل الصين على الترويج لتدويل عملتها الخاصة “اليوان”، وترى في تحالف الـ “بريكس” منصة لتعزيز نفوذها العالمي. 

فمن خلال الاستفادة من إطار الـ “بريكس”، تهدف بكين إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية، وتوسيع فرص التجارة والاستثمار، وتعزيز استخدام “اليوان” بما يتماشى مع مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وترسيخ مكانتها كلاعب رئيسي في النظام المالي الدولي ومتحكم بدول المجموعة في مؤشر يكشف ألاعيب بكين.

باختصار، يظهر تفكك واضح في خطط تحالف الـ “بريكس” لإطلاق عملة موحدة جديدة للتخلص من الدولار الأميركي. وتتجلى الصعوبات والتحديات في تحقيق التوافق بين الدول الأعضاء، وتحقيق الاستقلال المالي والتحكم في الأسواق العالمية. ويبدو أن هذه الخطط الجريئة تواجه عقبات كبيرة ولن تتمكن تلك الكتلة من تحقيق طموحاتها في هذا المجال المعقّد والحسّاس.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات