خلال الآونة الأخيرة، اتخذت تركيا جملة من القرارات التي بدورها استفزت روسيا بشكل كبير، حتى اعتبرها بعض الخبراء بمثابة انقلابٍ تركي على حليفتها روسيا. يُعتبر قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإطلاق سراح قيادات منظمة “آزوف” المحظورة في روسيا، وتسليمهم لأوكرانيا، من وجهة نظر “الكرملين”، انتهاكا للاتفاقيات المبرمة بين أنقرة وموسكو.

هذا فضلا عن قرار أنقرة بشأن انضمام السويد إلى “حلف شمال الأطلسي” (الناتو)، الأمر الذي سيترتب عليه حتما العديد من التداعيات على التوازنات الاستراتيجية والعسكرية في أوروبا، وانعكاسات كبيرة على العلاقات الروسية التركية، إلى جانب حديث أردوغان عن إمكانية انضمام أوكرانيا إلى “الناتو”، بالتالي تشير التوقعات بأن العلاقات بين الصديقين المتحالفين؛ أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد بدأت بالفعل تتصدع.

تدعيما لهذه الفرضية، صرح فيكتور بونداريف، رئيس لجنة الدفاع والأمن في “مجلس الاتحاد الروسي” بحدة، مؤخرا، أن تركيا تتحول إلى دولة غير صديقة بعد اتخاذها سلسلة من القرارات الاستفزازية. من هذا المنطلق، لا بد من طرح بعض التساؤلات الملحّة حول تداعيات القرارات التركية الأخيرة على مستقبل العلاقات بين أنقرة وموسكو، وإذا كان من الممكن اعتبار ذلك انقلابا على روسيا، وماذا يمكن فهمه من المواقف التركية هذه، هل يسعى أردوغان لإعادة العلاقات مع الغرب ويدير ظهره لبوتين أم ماذا.

دلالات قرارات تركيا

ثمة أصوات كثيرة في الأوساط السياسية تحديدا البرلمانية وأيضا الداخلية في الحكومة الروسية، بدأت تتحدث عن أن هناك خطوات تتخذها تركيا ضد المصالح الروسية، ولا يقتصر هذا فقط على قبول أو موافقة تركيا على انضمام السويد لعضوية “الناتو”، بينما مسألة تسليم قادة من منظمة “آزوف” لأوكرانيا والاتفاقات التي توصّل إليها أردوغان خلال القمة التركية – الأوكرانية مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي في أنقرة، ومن ضمنها تسليم طائرات مسيّرة، هذا بالإضافة إلى العديد من التنازلات أو التفاهمات التي توصّل إليها أردوغان قبل بدء مؤتمر “الناتو”، وفق تقرير لموقع “مونت كارلو الدولية“.

صورة أرشيفية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي- “Chris McGrath/Getty Images

بالعودة إلى حديث بونداريف، وفق ما قاله لوكالة “تاس” الروسية للأنباء، إن “الأحداث التي شهدتها الأسابيع الماضية، للأسف، تظهر بوضوح أن تركيا مستمرة بشكل تدريجي وثابت في التحول من دولة محايدة إلى دولة غير صديقة لأنها اتخذت سلسلة من القرارات الاستفزازية” بعد زيارة زيلينسكي لتركيا يوم الجمعة الماضي.

كما وذكر أن تركيا تؤيد محاولة أوكرانيا الانضمام إلى “الناتو” وأطلقت سراح قادة الكتيبة الأوكرانية التي دافعت عن مجمع “آزوفستال” للصلب بمدينة ماريوبول الأوكرانية قبل أن تسيطر عليها القوات الروسية، على الرغم من الاتفاق على بقائهم في تركيا حتى نهاية الحرب.

الكاتب والباحث السياسي المتخصص بالشأن التركي، محمود علوش، يعتقد وفق حديثه لموقع “الحل نت”، أن الخطوة التركية كانت تهدف إلى إظهار الدعم لأوكرانيا قبيل قمة “الناتو” ولا تعكس انقلابا تركياً على العلاقة مع روسيا. لا تزال هذه العلاقة حيوية للطرفين وأنقرة ليست بوارد التخلي عنها بمعزل عن طبيعة علاقاتها مع الغرب، وفق ما يراه علوش.

علوش أردف أن “هناك خلافات وتباين في المواقف بين تركيا وروسيا في معظم القضايا الأساسية مثل الحرب في أوكرانيا والصراع في سوريا، لكن البلدين حريصان على مواصلة التعاون بينهما لأنها تعود بالفائدة على كليهما”. ويرى علوش من وجهة نظره أن “لدى أنقرة وموسكو قدرة على مواصلة إدارة مثل هذه الخلافات والتباينات”.

مع ذلك، يعتقد بعض المراقبين أن موسكو بدأت بالفعل تشعر أن القضايا الخلافية مع الشريك التركي أصبحت تؤثر سلبا على مصالحها أكثر من القضايا المشتركة التي كانت تستفيد منها روسيا. وتتعلق هذه القضايا الخلافية تحديدا بالملف الأوكراني وبتوسيع حلف “الناتو”، وهي قضايا تعتبر أساسية واستراتيجية لموسكو وأنقرة. 

بونداريف، أردف “مثل هذا السلوك لا يمكن وصفه بأي شيء سوى طعنة في الظهر”، واصفا تلك الخطوة بأنها “غير ودية جاءت نتيجة لضغوط من الناتو”. وكان زيلينسكي أعلن، السبت، أن 5 من قادة الكتيبة سيعودون إلى أوكرانيا من تركيا.

كان الجنود الأوكرانيون الخمسة قد استسلموا بعد سقوط ماريوبول، وبعد إطلاق سراحهم من الأَسر، تم نقلهم من روسيا إلى تركيا كجزء من تبادل الأسرى حدث في سبتمبر/أيلول، حيث اضطروا إلى البقاء حتى نهاية الحرب، وفقا لشروط التبادل.

هل تغيرت سياسة أنقرة الخارجية؟

أردوغان خلال فترة حكمه أقام علاقات وثيقة مع  روسيا ومع بوتين، تحديدا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا في عام 2016، والتقى الزعيمان مرات كثيرة واتفقا على صفقات تقاسم النفوذ في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز.

كما وأبعد أردوغان تركيا عن الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية، إلى حدّ التوتر في بعض السلوكيات، لا سيما عندما قام بإصدار قرار بشأن شراء نظام الدفاع الصاروخي “إس-400” من روسيا، ويرى مراقبون أن الرئيسين يقيمان العلاقات وفقا لمصالحهما المؤقتة، ولهذا سمّيت علاقتهما بـ”تحالف الانتهازيين”، وهو مهدد الآن بالتصدع.

من المفترض أنه كان ثمة مشاورات بين أنقرة وموسكو حول تجديد اتفاق تصدير الحبوب عبر موانئ البحر الأسود الذي ينتهي أجله الأسبوع المقبل، إلا أن المتحدث باسم “الكرملين” دميتري بيسكوف أعلن “إنه ليست هناك أيّ خطط لعقد لقاء بين الرئيس بوتين ونظيره التركي لمناقشة تجديد الاتفاق”، مضيفا أن “موعد زيارة بوتين إلى تركيا لم يحدد بعد”.

السفن المحملة بالحبوب الأوكرانية تنتظر عمليات التفتيش في خليج البوسفور- “رويترز”

غير أن أنقرة تواصل اتصالاتها مع أطراف اتفاقية الممر الآمن للحبوب في البحر الأسود بهدف تمديدها قبل 17 تموز/يوليو الجاري، في ظل إصرار روسيا على عدم التمديد بسبب عدم تحقيق الشق الخاص بها في الاتفاقية التي وقّعت في إسطنبول في 22 تموز/يوليو من العام الماضي مع أوكرانيا بوساطة تركيا ورعاية “الأمم المتحدة”. وقال أردوغان في تصريحات صحفية أخيرة إنه يتوقع أن يزور بوتين تركيا في آب/أغسطس، لكن موسكو لم تؤكد الزيارة. وهو ما يعني أن العلاقات بين البلدين بدأت بالفعل بالتراجع.

بالعودة إلى الباحث المتخصص بالشأن التركي، فإنه يرى من جانبه أن هناك قاعدة عامة تتحكم في مسار علاقات تركيا مع كلّ من روسيا والغرب. عندما تتقدم الأولى تتراجع الثانية والعكس صحيح. للحد من تأثير هذه القاعدة على صياغة سياستها الخارجية، لجأت أنقرة إلى استراتيجية التوازن، والهدف من رغبة أردوغان بإصلاح العلاقات مع الغرب حاليا تهدف إلى الوصول إلى هذا التوازن وليس الميل نحو الغرب من منظور جيوسياسي.

تركيا ستبقى تنظر إلى شراكتها مع روسيا في جنوب القوقاز وسوريا حيوية لتحقيق مصالحها الجيوسياسية. بالنظر إلى أن دور الغرب في هذه المناطق محدود للغاية، وفق ما يراه علوش، وأن تحسّنا محتملا للعلاقات بين تركيا والغرب لن يعود بالفوائد الكبيرة على مصالح تركيا في هذه المناطق في حال أضرت بشراكتها مع موسكو.

لكن المحللين يقولون، إن أردوغان في عقده الثالث في السلطة، وفترة ولايته الأخيرة، ربما يكون في طريق التصالح مع الغرب.

مميت سيليك، منسق التحرير في صحيفة “ديلي صباح” التركية يرى أنه “من خلال دعم محاولة السويد للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي تشير أنقرة إلى إعادة تقويم العلاقات مع الغرب، والتي توترت منذ فترة، وبطريقة ما، هذه حركة متوازنة بالنسبة لموقف تركيا بين الغرب وروسيا”، وفق ما نقله موقع “سي إن إن“.

في فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، حيث بدأت قمة “الناتو”، أكد الرئيس الأميركي جو بايدن وأعضاء آخرون في “الناتو” على الوحدة غير المسبوقة داخل الحلف في مواجهة الحرب الروسية، وأثنوا على أردوغان لقراره.

بعد ساعات من الإعلان، قالت واشنطن إنها تعتزم المضي قدما في نقل الطائرات المقاتلة “إف-16” التي تطالب بها تركيا منذ سنوات، متوجة بذلك شهورا من الجهود الدبلوماسية التي دارت وراء الكواليس لدفع أنقرة إلى المضي قدما نحو الموافقة على انضمام السويد إلى “الناتو”، وهذا دليل بأن دفة السياسة الخارجية لتركيا بدأت تتغير.

خاصة وصف أردوغان، بايدن بأنه “صديق عزيز”، وقال إن الوقت قد حان لكي يجتمعا لإجراء مزيد من المشاورات، واصفا اجتماع يوم الثلاثاء بأنه خطوة أولى إلى الأمام. أي أنه ربما يكون في قادم الأيام خطوات أخرى لتقارب أنقرة نحو الغرب والابتعاد التدريجي عن روسيا.

ضعف نظام بوتين

تمرّدُ مرتزقة “فاغنر” بقيادة يفغيني بريغوجين، مؤخرا في روسيا، شكّل ضربة قوية لبوتين ونظامه السياسي، حيث اعتبرت عدة تقارير غربية أنه التحدي الأصعب الذي واجه بوتين خلال أكثر من عقدين من وجوده في السلطة، وهدد استقرار نظامه السياسي في “الكرملين”.

هذا التمرد التاريخي في عهد حكم بوتين أضر بشكل كبير بسمعته وقوة جيشه العسكري، والتي قد اعتبرتها أنقرة هشاشة بوتين في إدارة شؤون بلاده على جميع المستويات، وخاصة العسكرية، وبالتالي ربما شعر أردوغان أن لديه مساحةٌ الآن أكثر من أي مكان آخر للمناورة وممارسة أسلوبه البراغماتي في الظروف بالنظر إلى أن روسيا معزولة وتحتاج إلى أنقرة باعتبارها الدولة الوحيدة في “الناتو” التي لم تطبق العقوبات.

العلاقات التركية الروسية تبدو أكثر متانة مقارنة بما هو الحال عليه في العلاقات بين تركيا والغرب. وحتى لو افترض أن مرحلة جديدة في العلاقات بين تركيا والغرب ستحصل، فإنها لن تؤدي بطبيعة الحال إلى ترميم عامل الثقة بين أنقرة والغرب بشكل كامل، وفق ما يحلله علوش. ستبقى القضايا الخلافية الرئيسية بين الطرفين قائمة مثل التوترات التركية اليونانية والقضية القبرصية المزمنة.

الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال اللقاء مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان على هامش قمة “الناتو” في ليتوانيا- “أ.ف.ب”

الفوائد المحتملة التي يُمكن أن تجنيها تركيا من وراء تحسين علاقاتها مع الغرب ستبقى محدودة في أطر ضيقة مثل الاقتصاد والتجارة وجزئيا التعاون الدفاعي، لكنها لن تؤدي إلى إعادة تشكيل العلاقات من منظور جيوسياسي أوسع، وفق علوش.

أي أن الروابط الاقتصادية الكبيرة بين تركيا وروسيا يمكن أن تشكل عائقا أمام التوصل إلى توافق تام مع الغرب، كما أشار إليه زعيم “حزب الشعب الجمهوري” المعارض، كليجدار أوغلو، في المقابلة مع “وول ستريت جورنال” عندما تحدث عن مدى صعوبة تحقيق هذا التوازن والحد من قدرة أردوغان على المناورة، وفق بعض التقارير.

قد يبدو أن أردوغان يريد استعادة علاقاته مع الجانب الغربي، من خلال المناورة واتباع أسلوبه البراغماتي كالمعتاد، لكن الغرب لا يقبل شراكة متساوية مع الطرف الروسي في الوقت ذاته، مما يعني أن أنقرة ستواجه معضلة في تحقيق مصالحها التي ترنو إليها، وعلى أي حال ستبقى هي الخاسرة في هذه المعادلة، والأزمات التي تعاني منها تركيا ولا سيما الاقتصادية دليل على سياسات أردوغان المتعثرة على مدى العقدين الماضيين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4 2 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات