في عالم ينبض بالتطورات السياسية والاقتصادية، تشكل المنافسة الجيوبوليتيكية جزءا أساسيا من سيناريوهات العلاقات الدولية، حيث تتبارى الدول والمناطق في سباق متواصل لتعزيز نفوذها وتحقيق مصالحها الاستراتيجية. وفي هذا السياق الدولي المترنح، تأتي قمة دول الخليج العربية ودول آسيا الوسطى، والتي استثارت الفضول وأثارت الانتباه للعديد من الأسباب.

دون حضور تركيا، أُصدر البيان المشترك للقمة التي عُقِدت يوم أمس الأربعاء، وكانت هذه القمة خطوة مهمة نحو تعزيز الروابط السياسية والاستراتيجية بين دول الخليج العربية ودول آسيا الوسطى. إلا أن الهدف الحقيقي وراء هذه القمة البارزة الذي تسعى الدول المشاركة لتحقيقه قيد التكهن، لاسيما وأن هناك منافسة جيوبوليتيكية تجري وراء الكواليس تُلقي بظلالها على هذا التجمع.

في هذا التوقيت، تعد قمة “مجلس التعاون الخليجي” ودول آسيا الوسطى خطوة استراتيجية مهمة لبناء جسور تواصل بين هذه الجهتين الجغرافية المختلفة. كما أنها فرصة لتعزيز العلاقات بينهما في مختلف المجالات، من الاقتصاد والتجارة إلى الأمن والشؤون السياسية. ولكن السؤال المحير هو: ما الذي يجعل هذه القمة بارزة، وما الذي يجعل دول الخليج وآسيا الوسطى يجتمعون بتلك الحماسة والحزم.

قمة الخليج وآسيا الوسطى

قادة وزعماء دول “مجلس التعاون الخليجي” ودول آسيا الوسطى الخمس “سي 5″، اجتمعوا في جدّة للمشاركة في قمتهم الأولى، حيث حضر القمة كل من إمام علي رحمان رئيس طاجيكستان، وشوكت ميرضيائييف رئيس أوزبكستان، وصادير جباروف رئيس قرغيزستان، وقاسم جومارت توقاييف رئيس كازاخستان، وسردار بيردي محمدوف رئيس تركمانستان.

قمة دول الخليج وآسيا الوسطى - إنترنت
قمة دول الخليج وآسيا الوسطى – إنترنت

ما يلفت النظر ليس فقط كونها القمة الأولى بين هذه الدول، إنما تأكيد البيان الختامي للقمة على استمرار التنسيق السياسي، ومواجهة التحديات، والعمل على ضمان مرونة سلاسل الإمداد، وخلق فرص الأعمال التجارية ودعم فرص الاستثمار وزيادة التبادل التجاري.

آسيا الوسطى تشبه المنطقة العربية في تعقيدها وتنوعها، إلا أنها تتمتع أساسا بنفس لغة التوازن الجيوسياسي التي يُتحدث عنها في الشرق الأوسط، وهو مفهوم يتجاوز حدود الزمان والمكان. وبينما كانت هذه المنطقة تاريخيا قاعدة لقوة روسيا وتركيا وإيران، واحتفظت بعلاقات قوية وإيجابية مع جميع الدول، لا يمكن تجاهل تزايد نفوذ الصين هناك، وذلك من خلال مبادرتها الطموحة لـ”الحزام والطريق”.

من جهة أخرى، فإن دول الخليج وآسيا الوسطى تدركان أهمية هذه الفرصة الفريدة للتعاون، حيث تمثل القمة فرصة لبناء شراكات استراتيجية قوية تعزز التجارة والتنمية المشتركة بين هذه الجهتين الاقتصادية الحيوية. ومن المتوقع أن تسهم هذه الشراكات في تعزيز الطاقة والبنية التحتية في المنطقة، وتعزيز دور الخليج كجزء أساسي من سلسلة التوريد للطاقة والسلع من آسيا إلى أوروبا بعيدا عن إيران شرقا وتركيا شمالا.

بهذا، تحمل قمة دول الخليج وآسيا الوسطى رسالة مستقبلية مبطنة، فهي فرصة لبناء روابط قوية وتعزيز الحوار بين هاتين المنطقتين. وسيكون لهذه القمة أثر إيجابي وملموس على المنافسة الجيوبوليتيكية في المنطقة والتوازنات السياسية والاقتصادية.

ساحة اختبار أم وجهة جديدة؟

الاعتماد المتبادل بين دول “مجلس التعاون الخليجي” وآسيا الوسطى بحسب حديث الخبير الأذربيجاني في العلاقات الدولية، أديغوزل مامادوف، لـ”الحل نت”، أصبح نموذجا جديدا معقدا وواضحا في آن واحد. حيث تدمج هذه العلاقات المصالح والبراغماتية مع الأصول العرقية والدينية، مما يجعلها أكثر تعقيدا وتنوعا من غيرها.

آسيا الوسطى تشبه المنطقة العربية في تعقيدها وتنوعها - إنترنت
آسيا الوسطى تشبه المنطقة العربية في تعقيدها وتنوعها – إنترنت

رؤية “مجلس التعاون الخليجي” تجاوزت العلاقات التقليدية والتواصل مع الدول العربية، بل أصبحت بحاجة إلى التوسع وتطوير رؤية أوسع. وأظهرت الدراسات أن دول الخليج كانت من بين الدول الأولى التي تعاملت مع دول آسيا الوسطى بعد استقلالها وانهيار “الاتحاد السوفيتي”. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه العلاقات تبدو وكأنها صفحة بيضاء بالمقارنة مع علاقاتهم مع دول آسيوية أخرى، مثل الصين واليابان.

قد تكون هذه الصفحة البيضاء وفقا لمامادوف، فرصة جديدة للتعاون وتبادل المصالح بين المنطقتين، وهي تحفز التحرك نحو تعزيز العلاقات بين دول الخليج وآسيا الوسطى. فقد تكون هذه المنطقة المعقدة والمليئة بالتحديات، مفتاحا لاكتشاف آفاق جديدة وتوسيع نطاق التعاون والتفاعل بين هاتين الجهتين الجيوسياسيتين البارزتين في الشرق الأوسط والقارة الآسيوية.

المنطقة الإيرانية والتركية تتساءل حاليا عن موقفها الاستراتيجي، وتردد صداها مؤخرا في ظل الأحداث العدائية بين أرمينيا وأذربيجان. تلك الأحداث أثرت على تحديد تمركز إيران الاستراتيجي، وتسببت في توترات مع تركيا بشأن مسائل تتعلق بسيادة طهران.

إيران وتركيا تتبعان سياسة خارجية مختلفة تماما تجاه العالم العربي، وهذا يعكس تناقضهما بين سياستهما في آسيا الوسطى التي تكونان فيها أكثر احتراما وتعاونا. لكن الآن تبعا لتوقع مامادوف، ستضطر طهران وأنقرة للتعامل مع الخليج بنفس التعامل مع دول جوارها في آسيا، ومن المحتمل أن نشهد تغييرا كبيرا في المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط، حيث ستكون الديناميكية المستقبلية للمنطقة هي نقيض تماما لما هو عليه الآن.

الضرب في العمق

خلال 2022، أقامت كازاخستان علاقة قوية مع الإمارات، وكانت بمثابة خارطة طريق للتطوير الناجح للشراكات ليس فقط في التجارة والأعمال ولكن أيضا من خلال تحديد أهمية التبادلات الثقافية والإنسانية. ووقعت الإمارات وكازاخستان في تشرين الأول/أكتوبر الفائت اتفاقية بقيمة 6.1 مليار دولار، ينفذ بموجبها البلدان أكثر من 20 مشروعا في مجموعة واسعة من القطاعات، نصفها في مجال الأعمال التجارية الزراعية والأمن الغذائي.

ولي العهد السعودي يلتقي رئيس طاجيكستان على هامش القمة الخليجية مع دول آسيا الوسطى - إنترنت
ولي العهد السعودي يلتقي رئيس طاجيكستان على هامش القمة الخليجية مع دول آسيا الوسطى – إنترنت

من جانبها، قدمت السعودية دعما كبيرا والتزامات لأوزبكستان لتوسيع التعاون الاقتصادي. وفي الآونة الأخيرة، أعلنت الشركة السعودية “أكوا باور” عن توقيع ثلاث اتفاقيات استراتيجية جديدة، يحتمل أن تصل قيمتها إلى 2.5 مليار دولار، مع وزارة الطاقة في أوزبكستان، تهدف إلى تضخيم توليد الطاقة وتطوير الخبرة الفنية.

بحسب مامادوف، تساهم المنافسة الجيوبوليتيكية بشكل كبير في تشكيل الأجندات الدولية وتوجيه مسار العلاقات بين الدول. وعند التفكير في دول الخليج العربية، يتبادر إلى الذهن تركيزها على مواجهة تحديات إقليمية كبيرة، ومنها إيران وتركيا. 

إيران، القوة الإقليمية المؤثرة بشكل كبير في المنطقة، تشكل تحديا للدول الخليجية، بينما تركيا، القوة الناشئة في آسيا الوسطى، تتسم بالطموح وترغب في تعزيز تواجدها ونفوذها في المنطقة. لذا فإن مسألة النفوذ والتأثير الإقليمي تعتبر جوهرا لهذه المنافسة الجيوبوليتيكية المثيرة.

بجانب هذا السباق على التأثير والنفوذ، ترتبط دول الخليج وآسيا الوسطى بروابط تاريخية واقتصادية تجعلهما يعملان معا لرفع مستوى الاستقرار في المنطقة بأكملها. إذ يتوقع أن تساهم هذه القمة في تحقيق تعاون أوسع في قطاعات الاقتصاد والتجارة والطاقة، حيث ستسعى دول الخليج لتكون جزءا من سلسلة التوريد للطاقة والسلع الواردة من آسيا إلى أوروبا.

إيران وتركيا تلعبان دورا حيويا في هذه المنافسة الجيوبوليتيكية، حيث تسعى كلا الدولتين لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وقد تؤثر هذه المنافسة على دور إيران وتركيا ونفوذهما في المنطقة، وقد يؤدي ذلك إلى تغييرات في التحالفات الإقليمية والعلاقات بين الدول.

رؤية هذه القمة لا يعدو عن كونها جزء من تحالفات أو تكتيكات إقليمية تهدف لمواجهة التحديات المشتركة خصوصا من دول لم تحترم واقع الشرق الأوسط، وأيضا هي للتعاون في التصدي للتهديدات الأمنية والاقتصادية. وقد تسهم هذه القمة في توطيد التعاون بين الدول وتحسين العلاقات الإقليمية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات