رغم فشل مساع سابقة مثل فرض تسعيرات الغاز ضمن التعاملات الخارجية بالروبل الروسي، ومحاولات تأسيس نظام مالي إلى جانب عدد من الدول يضمن استمرار التدفقات المالية لروسيا بعد تعطلها بنسبة كبيرة نتيجة العقوبات الدولية المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين، على إثر غزوها لأوكرانيا.

عادت روسيا مجددا في محاولة يبدو أنها تمثل مسعى جديد لتجنب العقوبات، غير أنه لا يبدو واضحا بعد إذا ما كانت محاولة ناجحة، أم ستكون لها تبعات عكسية على النظام الاقتصادي الروسي، حيث بدأت الثلاثاء الماضي، اختبار الروبل الرقمي الجديد مع المستهلكين، على أمل أن تساعدها تكنولوجيا سلاسل الكتل المعروفة بالـ “بلوكتشين” في الالتفاف على العقوبات وتشديد الرقابة على مواطنيها.

ذلك يأتي في الوقت الذي لا يزال الروبل الروسي ينزف قيمته أمام الدولار الأميركي، إذ بلغت قيمة العملة المحلية أدنى مستوى لها مقابل الدولار منذ آذار/مارس العام الماضي، بعد أسابيع على إطلاق موسكو حملتها العسكرية الواسعة النطاق في أوكرانيا، وسط إجراءات استثنائية من قبل “البنك المركزي” الروسي، لرفع أسعار الفائدة بمقدار 350 نقطة أساس إلى 12 بالمئة.

ما وراء إطلاق روسيا الروبل الرقمي

فالـ “مركزي” الروسي، حاول في اجتماع استثنائي عقده الثلاثاء الماضي، تفعيل إجراءات سريعة لوقف الانخفاض السريع لقيمة الروبل الذي اقترب خلال جلسة الإثنين الماضي من مستوى 102 روبل للدولار، وهو أدنى مستوى له منذ الربع الأول العام الماضي، حيث يهدف البنك من خلال رفع الفائدة إلى الحفاظ على استقرار الأسعار، لاسيما مع ارتفاع التضخم السنوي إلى 4.4 بالمئة اعتبارا من 7 آب/أغسطس الجاري، وسط نمو الطلب المحلي الذي يتجاوز قدرة الاقتصاد على توسيع الإنتاج.

روسيا تبدأ اختبار الروبل الرقمي/ (AFP)

بناء على ذلك، دخل الروبل الرقمي الروسي مرحلة الشكل الافتراضي بعد مصادقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على قرار خاص بهذا الصدد، وذلك في سباق جديد لمواجهة الإرباك الناجم عن العقوبات الغربية غير المسبوقة ضد موسكو، وأملا في استعادة السيطرة بشكل شامل على نظام المدفوعات الإلكترونية، بعد فصل روسيا عن الشريان المالي العالمي من خلال حرمانها من نظام “سويفت” وتجميد حساباتها في البنوك الأجنبية.

قرار اعتماد الروبل الرقمي يمثل بالنسبة لروسيا مسعى جديد لتشكيل نظام دفوعات وطني يحررها من تبعية الارتباط لأنظمة المدفوعات التي تتحكم بها المنظومة الغربية، التي بدأت تستخدم سلاحا عقابيا ضد موسكو بسبب ملفي ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 ومن بعدها غزوها لأوكرانيا في شباط/فبراير العام الماضي.

بذلك تنضم روسيا إلى جانب 20 دولة أخرى حول العالم دخلت المرحلة التجريبية لإطلاق عملة رقمية، وفق إحصاء لـ “المجلس الأطلسي” للأبحاث، وسيصبح الروبل الرقمي الشكل الثالث للعملة الروسية إلى جانب النقود النقدية وغير النقدية المخزنة في الحسابات المصرفية، ومن المفترض أنه سيكون في شكل رمز رقمي في المحفظة الإلكترونية، تأمل موسكو من خلاله تسهيل تنفيذ المدفوعات الدولية، فضلا عن جعل المعاملات داخل روسيا أكثر ملاءمة.

لكن المختص في مجال الاقتصاد الدولي، بيار خوري يرى، أنه حتى في حال نجاح روسيا في استقطاب بعض المتداولين بالروبل الرقمي، إلا أنه من غير المرجح أن يكون ذلك حلا لمشكلة العقوبات، ذلك لأن هناك العديد من العوامل التي قد تثني الناس عن استخدام الروبل الرقمي، مثل عدم استقرار الروبل كعملة في الظروف الخالية، ونقص الوعي بالروبل الرقمي.

الالتفاف على العقوبات أمر صعب

خوري وفي حديث لموقع “الحل نت”، أوضح أن الروبل الرقمي هو عملة رقمية مركزية، أي أن الحكومة الروسية هي التي تتحكم في إصداره وتداوله، وهذا يعني أن الروبل الرقمي لن يساهم في جذب المزيد من الأموال المتداولة الى السوق الروسي، اي انه لن يخلق أي أموال جديدة، وذلك باستثناء أنه سيؤدي إلى تحويل الأموال من النقود إلى الحسابات المصرفية الإلكترونية.

خبرى يرون أن الروبل الرقمي الروسي لن يساعد موسكو على الإفلات من العقوبات الدولي/ إنترنت + وكالات

علاوة على ذلك، بحسب خوري، فإن استخدام الروبل الرقمي للالتفاف على العقوبات الدولية سيكون أمرا صعبا للغاية، لأن الحكومة الروسية ستحتاج إلى إيجاد طريقة لربط الروبل الرقمي بالعملات الأجنبية، وهذا أمر صعب للغاية في ظل العقوبات، بسبب أن العقوبات الدولية تستهدف النظام المالي الروسي، بما في ذلك البنوك والبورصة، بالتالي إن المنفعة الممكنة هي في استخدام الروبل في التعاملات البينية عبر العالم بين الافراد وربما التجار دون الحاجة لإجراء عمليات قطع أجنبي وسيطة، إلا أنه حتى ذلك يحتاج قبول المتعاملين خارج روسيا للتداول الروبل الرقمي.

الخبير في الاقتصاد الدولي، لفت إلى تحول التعاملات داخليا بالروبل الرقمي يمكن أيضا أن يسبب خطوة نحو تسلط النظام الروسي على تعاملات المواطنين، وذلك لأن الحكومة الروسية ستتمكن من تتبع جميع المعاملات المالية التي تتم بالروبل الرقمي، وهذا يعني أن الحكومة الروسية ستتمكن من معرفة كل ما ينفقه المواطنون، ومدى ثروتهم. 

منذ أواخر شباط/فبراير العام الماضي، أعلنت “المفوضية الأوروبية” وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة وكندا والولايات المتحدة في بيان مشترك التزامها بضمان إزالة بنوك روسية منتقاة من نظام “سويفت” المالي الذي يربط آلاف المؤسسات المصرفية حول العالم.

إذ منعت معظم البنوك الروسية من الوصول الى النظام الرئيسي المستخدم في التعاملات المالية الدولية، مما دفع موسكو للبحث عن وسائل أخرى لفك ارتباطها بالدولار، وبالرغم من أن “البنك المركزي” الروسي، كان قد أعلن قبل ذلك في تشرين الأول/أكتوبر 2020، أنه يسعى لروبل رقمي لجعل عمليات الدفع آمنة ومحمية وسريعة ومريحة ويمكن الوصول إليه لأي فرد في أنحاء روسيا، إلا تنفيذ ذلك جاء في الوقت الحالي بعد أن باتت روسيا معزولة عن النظام المالي الدولي.

هدف روسيا من الروبل الرقمي

كما سبق أن فرض “الاتحاد الأوروبي” عقوبات على 64 مؤسسة روسية مهمة، ومنع بنوك الاتحاد من قبول ودائع تزيد قيمتها عن 100 ألف يورو من المواطنين الروس، كما منع إرسال السلع والخدمات والتكنولوجيا اللازمة إلى مصافي النفط الروسية.

الروبل الرقمي الروسي يضع الروس تحت نظام تتبع السلطات/ إنترنت + وكالات

بالتالي إن هدف موسكو من اللجوء في الوقت الحالي للروبل الرقمي بدى واضحا، وهو جعل أنظمتها المالية أكثر مرونة والحد من تأثير القيود الدولية، في حين سيشرف “جهاز الأمن الفيدرالي” الروسي “أف أس بي” على سلامة الهيكل المالي للروبل الرقمي. وحذّرت منظمات غير حكومية بالفعل من احتمال إساءة استخدامه.

قبل ذلك، كان “البنك المركزي” الروسي، قد أعلن عن انضمام 70 مصرفا أجنبيا من 12 دولة إلى نظام التعاملات الروسي البديل لشبكة “سويفت” العالمية، وقالت رئيسة البنك، إلفيرا نابيولينا، إن “المركزي” الروسي لن يكشف عن قائمة هذه المصارف بسبب تخوف هذه البنوك من أن تطالها العقوبات الغربية، لتعاملها بالنظام المالي الروسي في ظل استمرار دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية بفرض المزيد من العقوبات.

فروسيا كانت قد أنشأت نظام “أس بي أف أس” في عام 2014، عندما هددت الولايات المتحدة، بطرد روسيا من نظام “سويفت” من خلال العقوبات، وهذا النظام هو اختصار لنظام نقل الرسائل المالية، ويقوم بصياغة ومعالجة التنسيقات الموحدة للرسائل المصرفية الإلكترونية أو مستندات “يو إف إي بي سي” وملفات “إم تي” أيضا، إلا أن هذه الخطوات لما تتمكن من إنقاذ روسيا من العقوبات الدولية التي وضعتها في عزلة مالية شبه تامة، الأمر الذي انعكس على النمو الاقتصادي والقطاع الصناعي والتكنولوجيوالتكنولوجي بشكل كبير.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات