خلال كلمته أمام مجلس الشعب أمس الثلاثاء، أشعل رئيس مجلس الوزراء السوري، حسين عرنوس، شرارة قصة اقتصادية عندما كشف عن أرقام ربما كانت متوقعة، أحد هذه الأرقام يتحدث بوضوح عن عجز الميزان التجاري السوري، هذا العدو الصامت الذي يمتلك القدرة على تدمير الاقتصاد، وبدأ يتجاوز كل التوقعات. 

وفقا لعرنوس، فإن قيمة العجز في الميزان التجاري بين الصادرات والمستوردات منذ بداية العام وحتى نهاية شهر آب/أغسطس الماضي، بلغت مليار و641 مليون يورو، وهذا يعني أن قيمة السلع التي تستوردها سوريا تفوق بكثير قيمة السلع التي تصدرها، مما يشير إلى ضعف القدرة التنافسية للمنتجات السورية في الأسواق الخارجية، وارتفاع الطلب على السلع الأجنبية في السوق المحلية.

بحسب الصحافة السورية المحلية، فإن قيمة الصادرات السورية بلغت 520 مليون يورو لغاية الشهر الفائت بنسبة قدرها 47 بالمئة عن الفترة المماثلة من العام الماضي، وهذا يدل على تراجع حاد في حجم الصادرات السورية، التي كانت تبلغ نحو 8 مليارات دولار في عام 2010، لكن ما هي الأسباب وراء هذا العجز الذي يبدو أنه خرج عن السيطرة.

بالأرقام.. خلل بالميزان التجاري السوري

من أهم العوامل التي أثرت على انخفاض الصادرات هي، انقطاع العلاقات التجارية مع الدول المجاورة، وتدهور سعر الصرف وارتفاع تكاليف الإنتاج والنقل، وفي المقابل، فإن قيمة الواردات السورية بلغت 2 مليار و161 مليون يورو لغاية بداية أيلول/سبتمبر الجاري، بنسبة قدرها 85 بالمئة عن الفترة المماثلة من العام الماضي.

هذا يعني أن سوريا تحتاج إلى استيراد كميات كبيرة من السلع الأساسية، مثل الغذاء والدواء والوقود والمواد الخام، لتلبية حاجات السوق المحلية وتعويض النقص في الإنتاج المحلي، ومن أهم العوامل التي أثرت على ارتفاع الواردات هي تزايد الاعتماد على السلع الأجنبية بسبب تراجع جودة وتنوع السلع المحلية، وزيادة الطلب على السلع الاستهلاكية مع تحسن الأوضاع الأمنية في بعض المناطق، وتغيير العادات والأذواق لدى المستهلكين السوريين.

الحقائق الصادمة التي أفصح عنها عرنوس لم تتوقف عند هذا الحد، بل أعلن رئيس مجلس الوزراء السوري، أن قيمة المستوردات السورية بلغت 2161 مليون يورو لغاية آب/أغسطس الفائت، بنسبة انخفاض قدرها 22 بالمئة عن الفترة المماثلة من العام الماضي، وهذا يعني أن ما تصدّره سوريا لم يعد كافيا لتلبية احتياجاتها من السلع والمواد المستوردة. 

لا تكمن الصعوبات فقط في الأرقام، بل هناك تقديرات محللين اقتصاديين تشير إلى أن التدهور الاقتصادي يشير إلى سياسة فاشلة في إحلال المستوردات، فالزيادة الكبيرة في الواردات تكشف عن فشل وزارة التجارة الخارجية في محاولاتها للحفاظ على قيمة الليرة السورية وضبط الوضع الاقتصادي، وإذا نظرنا بتمعن سنجد أنه لم يحدث تحسن يُذكر في الإنتاج المحلي، مما يعني أن الاعتماد على المستوردات لا يزال هو سيد الموقف في هذا الوقت.

إن هذا الوضع الاقتصادي الصعب ليس مفاجئا، فقد أشارت إحصائيات “المكتب المركزي للإحصاء” إلى أن عجز الميزان التجاري في سوريا خلال عام 2021 بلغ حوالي 9331 مليار ليرة، مقارنة بالعام السابق حيث بلغ العجز 2314 مليار ليرة فقط، وهذا يعني زيادة تجاوزت الـ 300 بالمئة في العجز، مما يشير إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية التي يعيشها البلد.

ما علاقة الصادرات السورية؟

هذه الأرقام التي كشف عنها عرنوس داخل قبة مجلس الشعب لا يمكن تجاهلها، فالفارق بين قيمة الصادرات وقيمة المستوردات لنفس الفترة وصل إلى مبلغ هائل وهو 1,641 مليون يورو، وهذا الرقم يشير بوضوح إلى التحديات الكبيرة التي يواجهها الاقتصاد السوري في الوقت الحالي.

الصادرات السورية تتدهور بشكل غير مسبوق، وهذا ليس مجرد تحليل اقتصادي، بل هو واقع قاسي يؤثر على حياة الكثيرين، فالبيانات الرسمية تظهر أن قيمة الصادرات التي بلغت عام 2010 نحو 12238 مليون دولار، وتراجعت بشكل هائل إلى 696 مليون دولار نهاية العام الماضي 2022، بنسبة تراجع تجاوزت 94.3 بالمئة، وهذا يعني أن هناك تدهورا كبيرا في الإنتاج الزراعي والصناعي وهروبا للشركات والاستثمارات.

 عام 2012 كان من أكثر الأعوام صدمة، حيث شهدت أكبر نسبة تغيّر في الميزان التجاري، إذ تراجعت قيمة الصادرات بنسبة 80 بالمئة، وانخفضت إلى 3050 مليون دولار، ومن ثم استمرت معاناة العجز بتراجع الصادرات حتى اليوم، هذا التاريخ يلقي الضوء على تحديات ضخمة تعترض سوريا في مجال التجارة والاقتصاد، فيما كانت الحكومة صامتة ولا تصدر سوى بيانات الانتصار.

الأكاديمي والخبير الاقتصادي، هاشم حمامي، أوضح لـ”الحل نت”، أن الصادرات هي السلع والخدمات التي تبيعها دولة ما إلى الدول الأخرى، وهي تعكس قدرة الدولة على إنتاج وتنافس في الأسواق العالمية، فالصادرات تساهم في زيادة الدخل القومي والنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين، كما تساعد الصادرات على توفير العملات الصعبة التي تحتاجها الدولة لتغطية وارداتها وسداد ديونها وتمويل استثماراتها.

علاقة الصادرات بعجز الميزان التجاري تتوقف على مقارنة قيمة الصادرات مع قيمة الواردات، وإذا كانت قيمة الصادرات أكبر من قيمة الواردات، فإن الدولة تحقق فائضا في الميزان التجاري، وهذا يعني أن الدولة تكسب أكثر مما تنفق في التجارة الخارجية، أما إذا كانت قيمة الصادرات أقل من قيمة الواردات، فإن الدولة تتكبد عجزا في الميزان التجاري، وهذا يعني أن الدولة تنفق أكثر مما تكسب في التجارة الخارجية.

لذلك، فإن الصادرات تلعب دورا مهما في تقليل عجز الميزان التجاري، وذلك بزيادة الإيرادات النقدية للدولة، وتحسين موقفها في التجارة الدولية، وتعزيز القدرة التنافسية للمنتجات المحلية، وتنويع الأسواق والشركاء التجاريين، وتشجيع الاستثمارات والابتكارات والتكنولوجيا، وتحقيق التوازن بين الإنتاج والاستهلاك.

ما هو عجز الميزان التجاري وما دلالاته الاقتصادية؟

العجز في الميزان التجاري في سوريا بحسب حديث حمامي، يعبر عن نقص في القدرة التنافسية للمنتجات المحلية في الأسواق العالمية، وارتفاع الطلب على السلع والخدمات الأجنبية في السوق المحلية، فعجز الميزان التجاري هو الفرق السالب بين قيمة الصادرات والواردات لدولة ما في فترة زمنية محددة، ويؤثر سلبا على الوضع الاقتصادي للدولة، وينعكس على مستوى الاحتياطي النقدي وسعر الصرف والتضخم والنمو والتنمية والمعيشة.

دلالات عجز الميزان التجاري الاقتصادية تختلف باختلاف حجمه ومدته وأسبابه وتداعياته، فمن الممكن أن يكون العجز التجاري مؤقتا ومقبولا، إذا كان ناتجا عن زيادة الواردات الاستثمارية والإنتاجية، التي تساهم في تحسين البنية التحتية والقدرة الإنتاجية والتنافسية للدولة في المستقبل. 

أيضا من الممكن أن يكون العجز التجاري مستمرا ومقلقا وهو ما ينطبق على الحالة السورية، لأنه ناتجا عن ضعف الصادرات السلعية والخدمية، وزيادة الواردات الاستهلاكية والفاخرة، التي تزيد من الاعتماد على الخارج وتنهك الاقتصاد الوطني.

في الحالة السورية، فإن هذا العجز سيؤدي إلى تناقص الاحتياطي النقدي من العملات الصعبة، وهو المخزون من النقد الأجنبي الذي تحتفظ به الدولة لتغطية وارداتها وسداد ديونها وتمويل استثماراتها، وعندما ينفد الاحتياطي النقدي، تواجه الدولة صعوبة في الحصول على العملات الصعبة من الأسواق الدولية، وتضطر إلى الاقتراض بفوائد عالية أو البيع من الذهب أو الاحتياطيات الطبيعية أو الأصول الثابتة.

أيضا تدهور سعر الصرف للعملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، وهو مؤشر على قيمة العملة المحلية في الأسواق العالمية، وعندما ينخفض سعر الصرف، تفقد العملة المحلية قوتها الشرائية، وتزداد تكلفة الواردات والديون والفوائد، وتنخفض قيمة الصادرات والاحتياطي النقدي والثروة الوطنية.

كذلك فإن سوريا مهددة بارتفاع معدل التضخم وتفاقم الأسعار، وهو مؤشر على زيادة مستوى الأسعار العامة للسلع والخدمات في السوق المحلية، فعندما يرتفع التضخم، تنخفض القيمة الحقيقية للدخل والمدخرات والاستثمارات، وتزداد الفجوة بين الدخل والمصروف، وتتأثر الإنتاجية والكفاءة والجودة، وتتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

كما أن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد بحسب حمامي، بل سيؤدي لانخفاض مستوى المعيشة والفقر والبطالة، وهي مؤشرات على حالة الرفاهية والرخاء للمواطنين في الدولة، فمع انخفاض مستوى المعيشة، ستتراجع القدرة على تلبية الحاجات الأساسية والمتقدمة، وتزداد نسبة الفقراء والمحتاجين والمهمشين، وتتناقص فرص العمل والدخل والتعليم والصحة والأمن والعدالة.

هذه العوامل بدورها ستقود إلى تراجع النمو الاقتصادي والتنمية البشرية، وهي مؤشرات على مدى التقدم والتطور للدولة في مختلف المجالات، وتتأخر الدولة عن المنافسة والتكيف مع التغيرات العالمية، وتنخفض معدلات الصحة والتعليم والمعرفة والحرية والديمقراطية والحقوق والمساواة.

هكذا، نجد أن العجز في الميزان التجاري السوري يخرج عن السيطرة، ويشكل تهديدا خطيرا للاقتصاد الوطني والمجتمع السوري، فهذا العجز يؤدي إلى نفاذ الاحتياطي النقدي من العملات الصعبة، وتدهور سعر الصرف لليرة السورية مقابل الدولار واليورو، وارتفاع معدل التضخم والتفاقم الأسعار، وانخفاض مستوى المعيشة، فيما لم يطرح عرنوس أي مخطط للخروج من هذا المأزق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات