من الخطورة بمكان، ترك الآلة العسكرية تتحرك بمفردها، وفقا لرؤية العسكريين وحدهم، ذلك أن العقل السياسي، هو القادر على تحديد آليات الجهد العسكري، وتوجيهه لخدمة الأهداف المرجوة. ومن ثم؛ فإن الطريق الذي يسلكه العسكريون، لا يؤدي بالضرورة إلى تكوين تصورات سياسية، وإنما العكس هو الصحيح، حيث إن السياسي لابد وأن يسبق العسكري بخطوة، ما يعني أنه لابد من وضع كافة السيناريوهات المتوقعة؛ وخطط التعاطي معها، قبل الشروع في أي نشاط عسكري؛ لأن معظم التصورات العسكرية المحضة، تكون ذات طابع انفعالي واضح، وكثيرا ما يكون الارتباط بينها وبين السياسي، في أفق العسكري، هو ارتباط غير منطقي، ولا أثر لتجارب الواقع عليه.

الصراع في غزة وأفق التحول السياسي

مع تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، في أعقاب هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر، واستهداف منشآت مدنية عديدة، هددت “كتائب القسام”، الذراع العسكرية لحركة “حماس” الفلسطينية، على لسان أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم “كتائب القسام”، بإعدام الأسرى الإسرائيليين، بالصوت والصورة، في كل مرة يتم فيها استهداف المدنيين في قطاع غزة. حيث قال: “كل استهداف لأبناء شعبنا الآمنين في بيوتهم، دون سابق إنذار، سنقابله بإعدام الرهائن المدنيين لدينا، وسنبثه بالصوت والصورة”.

إسرائيل قابلت تهديدات “حماس” بمزيد من التصعيد، وبشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ (الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي)، ورغم سقوط آلاف القتلى من المدنيين، وتدمير البنية التحتية في القطاع، لم تنفذ “حماس” تهديداتها حرفيا، وفضلت اللعب بورقة الأسرى؛ ربما بفعل الرغبة في ممارسة دور سياسي له أفق منظور، وربما كذلك بفعل ضغوط إقليمية، خاصة من مصر قطر.

 يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحماس في قطاع غزة – “إنترنت”

وبحسب مصدر أمني فلسطيني مطلع، تحدث إلى “الحل نت”، فإن مزايحات عديدة جرت، خلال الأيام الأولى للصراع، بين القيادة السياسية لحركة “حماس”، وقيادات “كتائب القسام”، ففي أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، تحركت “القسام” بمعزل عن صانع القرار السياسي، داخل الحركة، حيث كانت أكثر ميلا لتنفيذ ترتيبات جرت بالتنسيق مع “فيلق القدس الإيراني”، حتى أنه يمكن القول إن المكتب السياسي فقد سيطرته على الجناح العسكري، في الأيام الأولى للمعارك، قبل أن تنجح عملية ضبط إيقاع “القسام” من الناحية السياسية، ومنع عملية الانفلات ببطء وعلى مراحل.

وبحسب المصدر ذاته، مارس الجناح السياسي لـ”حماس”، ضغطا كبيرا على “كتائب القسام”، من أجل إلغاء الخطط التي تحدث عنها الملثم، لصالح وجهة نظر إسماعيل هنية، الرامية إلى تسييس الصراع، ووضعه الأزمة في قلب الأجندة الدولية، ونقلها من نطاق “الحرب على الإرهاب”، كما أرادت إسرائيل، إلى حيز الصراع حول الحقوق، وهو أمر يتطلب تعاطفا واسعا من الرأي العام العالمي، هذا التعاطف سوف يصبح بالضرورة مجرد وهم، في حال تم إعدام الأسرى، وساعتها لن يلتفت أحد، في خضم الرواية الإسرائيلية، لانتهاكات جيشها مهما بلغت.

هذا التحول في خطاب “حماس”، صاحبته تحركات إقليمية واسعة من مصر وقطر، لكن اللحظة الفاصلة جاءت مع خطاب الأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، والذي بدا واضحا من خلاله، أن طهران قررت تبريد جبهة الجنوب، وعدم الانجرار نحو الصراع العسكري.

مكاسب “حماس” من وراء الهدنة

من هنا، تركزت الجهود لصالح التوصل إلى هدنة، والمضي قدما في عملية تبادل الأسرى؛ بهدف تحقيق جملة من المكاسب السياسية، وأولها الاعتراف بوجود “حماس” كسلطة قابضة على مجريات الأمور في القطاع، وضمان بقاء الحركة وعدم السماح بتدميرها، بالإضافة إلى رفع معنويات الشعب الفلسطيني، ورفع أسهم “حماس”، التي ربما انخفضت كثيرا، وقد ظهر أن حساباتها السياسية والعسكرية، لم تكن موفقة.

وأخيرا، وبعد ستة أسابيع من الحرب الكارثية، اتفق الطرفان، بحسب تقارير غربية وإسرائيلية، على إرسال 50 امرأة وطفلا محتجزين كرهائن لدى “حماس” إلى إسرائيل، مقابل إطلاق سراح ما لا يقل عن 150 امرأة وطفلا فلسطينيا من السجون الإسرائيلية.

لكن الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين قطر والولايات المتحدة ومصر ليس سوى البداية، حيث من المتوقع أن تستأنف الحرب بعد هذا التوقف المؤقت، وأن يظل ما يقرب من 200 آخرين أسرى لدى “حماس” في قطاع غزة.

استمرت المفاوضات بين إسرائيل و”حماس” لعدة أسابيع، حتى قبل بدء الهجوم البري الإسرائيلي، وبحسب مصدر سياسي مصري رفيع، كانت مصر على وشك استلام قائمة من “حماس” بأسماء النساء والأطفال الذين كانوا على استعداد لإطلاق سراحهم، وذلك قبل نحو أسبوعين، لكن التوغل البري الإسرائيلي داخل القطاع، أدى إلى تجميد العملية.

المصدر لفت، في تصريحاته لـ”الحل نت”، إلى أن “حماس” تسعى إلى إطلاق سراح جميع السجناء في إسرائيل، وهو ما عبر عنه يحيى السنوار صراحة لمصر، كما اشترطت “حماس” عدم تحليق الطائرات بدون طيار الإسرائيلية في سماء غزة، أثناء إطلاق سراح الرهائن، وقد حصلوا على موافقة إسرائيل على ذلك، بحسب المصدر.

ليس أمام “حماس” سوى الاستثمار في الوقت، والرهان على الضغط الدولي على إسرائيل، وهو أمر يساعد عليه الانتقال من العسكري إلى السياسي.

ويمكن القول إن الهدنة باتت مطلبا مهما لحركة “حماس”، حتى إنها ربما تعرض الإفراج عن عدد من الأسرى؛ نظير تمديد الهدنة؛ ذلك أن الحركة بحاجة إلى إعادة التجمع والتنظيم، وإعادة التسلح، ثم وضع خططها للمرحلة التالية من الحرب، التي من المتوقع أن يطول أمدها.

وليس أمام “حماس” سوى الاستثمار في الوقت، والرهان على الضغط الدولي على إسرائيل، وهو أمر يساعد عليه الانتقال من العسكري إلى السياسي، وظهور قادة المكتب العسكري بشكل مكثف، خلال الفترة القادمة، على حساب الملثم ورفاقه، وهو أمر يتطلب قدرة ومهارة على إدارة الصراع، على المستويين السياسي والعسكري على حد سواء.

قطر ولعبة الكراسي الموسيقية

ربما ساعد الدور القطري على إعادة موضعة الجناح السياسي لـ”حماس”، وإعادة القيادة السياسية للحركة إلى المشهد من جديد، حيث كانت الدوحة تتعامل بشكل أساسي ومباشر مع القيادة السياسية لـ”حماس” في الدوحة وليس في القطاع، وربما كانت اللحظة التي شكلت ذروة صعود الجناح السياسي لـ”حماس” في الأحداث، هي زيارة إسماعيل هنية وخالد مشعل وخليل الحيّة إلى القاهرة، قادمين من الدوحة؛ للقاء رئيس المخابرات المصرية؛ ما يعني أن قناة التواصل المباشرة بين مصر و”حماس”، والتي كانت تتم طوال الأسابيع الأولي للحرب من خلال يحيى السنوار في غزة، أخذت شكلا جديدا، مع الثلاثي المحمل برؤية إقليمية أكثر اتساعا ومرونة، بفعل اللقاءات والمداولات التي أجراها هنية مع الأطراف الإقليمية ذات الصلة؛ وبفعل ابتعاده هو ورفاقه، بشكل شخصي، عن ضغوطات الوضع العسكري المريع في القطاع.

الملفت هنا، أن الدوحة تمتلك عدة معطيات، تجعلها مرشحة لممارسة دور يتجاوز حجمها الجيوسياسي، فالدولة التي حملت لسنوات “صندوق باندورا” الإسلاموي، لا تخشى من أي حركة معارضة في الداخل، كما أنها أصبحت تستضيف الآن حركة “حماس”، وفي نفس الوقت لديها مكتب تجاري لإسرائيل، وعلى أراضيها توجد آلاف القوات الأميركية في قاعدة العديد الجوية، ولديها شراكة استراتيجية قوية مع إيران، بالإضافة إلى تحسن علاقاتها بمصر ودول الجوار.

وحتى الآن، تمكنت قطر من إقناع “حماس” بالإفراج عن أربعة أسرى، جميعهم من النساء؛ ما جعلها تكسب ثقة دولية فيما يتعلق بقدرتها على التأثير على “حماس”، وهو ما تظهره تصريحات بيتر ستانو، المتحدث الرئيسي باسم الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، لمجلة “فورين بوليسي”، حيث قال: “نحن نعلم أن قطر يمكنها ممارسة نفوذها على حماس، وليس لدينا أي سبب للاعتقاد بأنها لن تفعل ذلك”.

التحدي الأكبر لدور الوسيط المحتمل تواجهه قطر من مصر، والتي لعبت أيضا دورا في إطلاق سراح رهينتين إسرائيليتين، وتوسطت من قبل في عدة اتفاقيات لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حماس”، في صراعات سابقة.

كما أن القاهرة بفعل موقعها وتحكمها في المنفذ الوحيد للقطاع المحاصر، وبحكم عمقها الاستراتيجي والجيوسياسي، وما راكمته من علاقات طويلة مع “حماس” وتل أبيب وواشنطن، كل هذا يمنحها مميزات لا تملكها قطر، لكن الأخيرة تراهن على أدواتها السياسية التي باتت فاعلة إلى حد كبير، بفعل دفعها الجناح السياسي لـ”حماس” إلى مسرح الأحداث.

SDEROT, ISRAEL – NOVEMBER 21: Smoke rises in Gaza seen from Sderot as Israeli attacks continue on the 46th day, in Sderot, Israel on November 21, 2023. (Photo by Mostafa Alkharouf/Anadolu via Getty Images)

ويرى البعض أن قطر تتمتع بفرصة أفضل من مصر، ليس فقط في التوسط في إطلاق سراح الرهائن، ولكن أيضا في التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، والدليل في رأيهم، الزيارة التي قام بها رئيس الموساد ديفيد بارنيا، إلى الدوحة، مؤخرا، للمشاركة في مناقشات حول إمكانية التوصل إلى صفقة لإطلاق سراح الرهائن.

كما يرى هؤلاء أن “فرصة قطر زادت بعد أن فقدت المملكة العربية السعودية دورها كوسيط لدى الفصائل الفلسطينية، حيث يبدو”، وبحسب تقارير إسرائيلية، “أنها وجهت معظم طاقتها الدبلوماسية في الفترة التي سبقت الحرب، نحو إقامة علاقات سلام مع إسرائيل”.

ويمكن القول إن التحول النوعي في سلوك “حماس”، يلزمه هامش مناورة كبير، فليس من مصلحة الحركة، مع سعيها إلى ضبط أدواتها السياسية، استثناء القاهرة، ذلك أن وضع الثمار في سلة واحدة، يعني المخاطرة بفقدان طرف مؤثر وفاعل، داخل الحركة نفسها، فالقاهرة وليس الدوحة، هي القادرة على الحفاظ على ما تبقى من “كتائب القسام”، وممارسة ضغط استراتيجي على تل أبيب، من خلال ورقة ضبط الحدود، ومواجهة الجماعات الإرهابية، والمشاركة بفاعلية في ترتيبات مع بعد الحرب، ولا يعني ذلك عدم الاستفادة من صعود الدور القطري، فالرهان يكمن في اللعب بكل الأوراق المتاحة، خاصة بعد أن أدارت طهران ظهرها للحركة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات