فيما بدأ طرفا الصراع في غزة؛ إسرائيل وحركة “حماس”، تنفيذ بنود الهدنة المؤقتة التي توصلوا إليها قبل أيام، ودخلت حيّز التنفيذ يوم الجمعة وتستمر حتى اليوم الاثنين، تصيغ القوى الإقليمية موقفها ولغة خطابها السياسي الرسمي تجاه الوضع المعقّد في القطاع، بحسب تطوّر الوضع الميداني ومواقف الدول الإقليمية المنافسة وحسابات القوى الدولية.

من الواضح أن هناك تبدّلات طرأت على مفردات الخطاب السياسي الرسمي التركي، إذ تبدّل خطاب المواقف السياسية الكلاسيكية نحو مقاربة سياسية لتبنّي موقف التهدئة والقفز على الأحداث الساخنة لتبني دور الوسيط السياسي وتوظيف علاقاتها في إطار خدمة مصالحها من دون تمرير لهيب الخطاب الساخن ضد تل أبيب والإشادة بدور “الفصائل الفلسطينية” خشية فقدان العلاقة مع “حماس” لصالح إيران، سيما وأن مؤشرات عدّة تشي بكون الأخيرة صاحبة رصيد مهم ولافت منذ بداية الأحداث وكذا تطوّرها بعد مرور أكثر من 50 يوما على اندلاعها.

أردوغان واستغلال الحروب والأزمات

إن تحليل مضمون الخطاب التركي تجاه القضية الفلسطينية وفق ما جاء على لسان  وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، حين قال “إما الذهاب إلى سلام تاريخي وإما إلى حرب إقليمية شاملة”، يكشف أن خبيئة ما بين الكلمات وما تخفيها يمثّل هدف أنقرة الرئيسي نحو الظهور كظهير معترف به لأي تسوية  قد تلوح في الأفق خاصة مع تحرّك القوى العربية خاصة قطر والقاهرة نحو العمل على وقف إطلاق النار وقدرتهم على تأكيد أنفسهم كفاعلين إيجابيين في إنهاء أزمة الأسرى والتفاعل مع مسألة خروج الأجانب كاملة والمقايضة بذلك مع دخول المساعدات الإنسانية.

تركيا نقلت حتى الآن 150 شخصا معظمهم من مرضى السرطان- “أ ف ب”

ثمة رؤية أن ما حدث صباح السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، يعكس خلال وقت قليل جملة من الترتيبات في المشهد الإقليمي سواء على مستوى التحالفات أو الصراعات الباردة بين الدول في الشرق الأوسط ضمن حالة الارتباك والشكوك في فعالية ومتانة النظام العالمي القائم.

على مستوى آخر تبصر سياسة تركيا الخارجية أن منسوب الصراع فيما بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا؛ سواء في أوكرانيا أو عبر ساحات أخرى في منطقة الشرق الأوسط يصنع لها أدوار براغماتية تصبّ في مصلحتها الذاتية، وعليها أن تعمل على استثمارها بالشكل الذي يكفل لها تحقيق مصالحها إقليميا ودوليا.

نحو ذلك حرص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على منح عملية “طوفان الأقصى” مساحات كبيرة على هامش الاحتفالات بقرن تركيا وأشار إلى إلغاء زيارته المرتقبة إلى إسرائيل، فضلا عن ما حرصت عليه بعض المدن التركية من تنظيم مسيرات داعمة للفلسطينيين، الأمر الذي دفع تل أبيب نحو استدعاء موظفيها الدبلوماسيين من أنقرة للتشاور مما يضع عربة العلاقات التركية الإسرائيلية أمام جملة التناقضات التي ستصنعها أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.

دلالات خطاب أردوغان

واليوم، بعد توصّل طرفي الصراع لهدنة مؤقتة، بوساطة مصرية قطرية وبدعم أميركي، يبدو أن أردوغان وجد نفسه خارج أيّ دور بارز في الشرق الأوسط، ولذلك سرعان ما تحدث بشكل رسمي عن “مستقبل غزة”، حيث قال إن بلاده “مستعدة لتولي المسؤولية مع دول أخرى في الهيكل الأمني الجديد، الذي سيتم إنشاؤه، وذلك بعد انتهاء الحرب في غزة، بما في ذلك آلية الضامنين”، ورغم أنه أشار إلى “آلية الضامنين” التي اقترحتها أنقرة قبل شهر، إلا أن موقفه بدا معاكسا لذاك الذي اتخذته دول إقليمية وعربية.

كما أن أردوغان لم يتطرق لماهية الدور الأمني الذي تستعد أنقرة للعبه والدول التي قد تشاركها فيه. واللافت في سياق الأحداث الجارية في قطاع غزة، هو بحث أردوغان مع نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، أهمية اتخاذ موقف مشترك ضد “الهجمات الإسرائيلية في غزة” خلال اتصال هاتفي، يوم أمس الأحد، حسب بيان أصدرته أنقرة.

فقد قالت الرئاسة التركية في بيان وفق ما نقلته وسائل الإعلام، “جرى خلال الاتصال الهاتفي مناقشة الهجمات الإسرائيلية غير المشروعة على غزة وجهود المساعدات الإنسانية للفلسطينيين والإجراءات المحتملة لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار في المنطقة”.

وبحسب البيان، شدد أردوغان على “ضرورة أن يتخذ العالم الإسلامي موقفا موحّدا ضد الفظائع الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية”، مؤكدا بحسب البيان على أن “إيران وتركيا ستواصلان العمل معا لجعل وقف إطلاق النار المؤقت دائما وتحقيق سلام دائم”.

بالتالي كل هذه الأحداث وديمومة سيولتها منحت فرصة لأنقرة أن تمضي في أدوارها الوظيفية على خلفية الصراعات الميدانية سواء إقليميا أو دوليا والعمل من خلال ذلك عبر أدوار الوسيط والتفاعل مع الأطراف والتواصل مع القوى الوازنة في محيطها بغية هدف رئيس هو تعزيز دورها في أعين حلفاء الغرب وتعزيز مكانتها نحو ذلك، فضلا عن حجز مقعد في إطار تناقضات النظام الإقليمي وارتباكه في مواجهة طهران التي تعمل على ربط حضورها السياسي والميداني من خلال تنظيمات سياسية ومسلحة كوكيل حصري لها في الامتدادات الجيوسياسية داخل الشرق الأوسط.

يدرك أردوغان أن تصاعد خطابه واستخدام مفردات ثقيلة ضد مسار تل أبيب العسكري في قطاع غزة يحميه من انتقادات المعارضة في تركيا.

يدرك أردوغان جيدا أن سياق تطور الأحداث في غزة وتصاعد العمليات بشكل غير مسبوق وسط إعلان إسرائيل أن هدفها من تلك العمليات، التي ستستأنف بعد انتهاء الهدنة المؤقتة، أن يمضي نحو تصفية “حماس” وجناحها العسكري يهدد منسوب الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط، مما يهدد مصالح تركيا داخل المنطقة ويدفعها نحو العمل بتوازن دقيق من خلال علاقاتها مع قيادات “حماس” وعدم تركها رهينة لطهران التي تهيمن بشكل كبير داخل العراق وسوريا وفي نفس الوقت لا ترغب في خسارة ما حققته من تطورات في علاقاتها مع تل أبيب سيما في مجالات الطاقة والسياحة والتبادل التجاري فيما بينهما.

ثمة جانب آخر لا يمكن تجاوزه في ذهنية أردوغان وحرصه على تأمين قواعده المحلية التي تحتفظ بمشاعر قوية إزاء القضية الفلسطينية على خلفية دينية مما بدا واضحا من خلال تنظيم مسيرات مؤيدة للفلسطينيين في إسطنبول وغيرها من المدن التركية الكبرى.

لا ريب أن تلك التيارات تمثّل الحاضنة الشعبية الرئيسية للرئيس التركي ولحزبه “العدالة والتنمية” وكذا كان ذلك جليا مع إصدار الأحزاب السياسية المكوّنة للبرلمان التركي بيانا مشتركا يدين فيه “الجريمة ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل”. وكان لافتا أن الأحزاب المشكّلة لتحالف الشعب الحاكم اتخذت مواقف متشددة تجاه التصعيد الإسرائيلي في غزة، إذ نظّم حزب “الهدى بار” الإسلامي مسيرة مؤيدة لـ”حماس” خارج القنصلية الإسرائيلية في إسطنبول وفي الثاني والعشرين من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، قال دولت بهجلي زعيم “حزب الحركة القومية” إنه يمهل إسرائيل 24 ساعة لوقف إطلاق النار، معتبرا أنه يجب أن تتدخل تركيا عسكريا إذا لم يكن هناك وقف لإطلاق النار.

على الجانب الآخر يدرك أردوغان أن تصاعد خطابه واستخدام مفردات ثقيلة ضد مسار تل أبيب العسكري في غزة يحميه من انتقادات المعارضة في تركيا، إذ جاءت تصريحات قادة أحزاب المعارضة الرئيسة مثل كمال كيليجدار أوغلو زعيم “حزب الشعب الجمهوري” الذي اتهم إسرائيل “بارتكاب جرائم ضد الإنسانية”، وميرال أكشنار زعيمة “حزب الجيد” التي شبهت نتنياهو بهتلر.

رجب طيب أردوغان وسط المظاهرة المؤيدة لفلسطين في إسطنبول شهر تشرين الأول/ أكتوبر- “وكالات”

علاوة على الانتقادات التي وجّهها رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، لردّ فعل أردوغان على حرب غزة حيث اعتبره “ضعيفا” وشاركه الرأي الأحزاب اليسارية التركية.

إلى ذلك يعرف أردوغان جيدا أن خطابه السياسي بهذه الصياغة يسمح له بمتانة قاعدته في “العالم الإسلامي” وشعبيته وسط الجماهير في دول الشرق الأوسط، الأمر الذي ينافس من خلاله راديكالية طهران وتموضعها في ما يسمى بـ “محور المقاومة”.

إن تتبّع منسوب سيولة الأحداث واستمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة سيضع إطارات محددة لشكل ومتانة العلاقات فيما بين تركيا من جانب وإسرائيل وحركة “حماس” على الجانب الآخر، حيث تدرك أنقرة جيدا أنه من الصعوبة بمكان أن تتخلى عن “حماس” والاحتفاظ بمقرها في البلاد وأن تظل ملاذا آمنا لقادة الحركة وأعضائها، برغم أن تلك النقطة تحديدا كانت ولا زالت كتلة صلبة في إطار العلاقات التركية الإسرائيلية.

وستضحى أكثر تعقيدا إذا ما توقّفت العمليات العسكرية وسط أي تسوية، الأمر الذي سيضع عراقيل واضحة في شكل العلاقات خلال الأفق المنظور، بيد أن التصورات السياسية الواقعية تستقر عند ضرورة الوصول لمقاربة تسمح بأن تمضي العلاقات فيما بينهما رغم كل الإشكاليات التي تبدو نحو مركزية القضية الفلسطينية في “الوجدان العربي والإسلامي” فضلا عن تمظهرها داخل أطر المنافسة مع إيران خاصة على مستوى التنافس الإقليمي.

إذن نستطيع القول إن السيناريو المرجّح في إطار فرضية السيطرة على العمليات العسكرية والوصول لتسوية سياسية ووقف إطلاق النار بشكل دائم، أن تعمل أنقرة عبر خطة تقضي التّمسك بالحد المطلوب لصيرورة دعم القضية الفلسطينية ووقف نزيف العلاقات مع تل أبيب، مما يمنع الوصول للقطع الكامل الذي يهدد المصالح الاقتصادية ويلحق الضرر بعلاقاتها إقليميا ودوليا خاصة مع كل التسويات الأخيرة التي جرت في منطقة الشرق الأوسط سواء على مستوى علاقات أنقرة مع القاهرة ودول الخليج وكذا ما يتصل بعلاقات إسرائيل مع أطراف إقليمية.

“حجز دور لامركزي”

إن الحقائق الجيوسياسية المتصلة بالصراع الميداني داخل قطاع غزة وتداعياته المباشرة وغير المباشرة سياسيا واقتصاديا يفضي بالضرورة أن يعمل الجميع صوب حجز دورا مركزيا في الإحداث وفاعلا رئيسيا نحو سيناريوهات تسويات ما بعد الحرب ويتوقع أن ترمي أنقرة إلى أن تكون لاعبا رئيسا في تسويات ما بعد الحرب.

في المحصلة، ليس ثمة شك أن دفء العلاقات بين رجب طيب أردوغان وقادة “حماس”، واضحٌ في عدة مواقف لا سيما مع إشارة الأول عن جهود أنقرة بشأن المساعدات الإنسانية مع الأخذ في الاعتبار أن التقارير الأممية ومنها “الأونروا” لم تضع تركيا أو إيران في مقدمة البلدان التي تمنح فلسطين مساعدات إنسانية خلال السنوات الماضية.

لكن أردوغان يؤدي دوره الشعبوي من خلال استعراض خطابات بلاغية يطالب فيها إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين حتى يبدو مدافعا شرسا عن الحريات رغم أن بلاده ترسف في القمع والتوحش والعدوان على الحريات بالقوانين والتشريعات المتعسفة. وفي سجونه الآلاف من المعارضة السياسيين والحقوقيين والصحافيين، فضلا عن وجود أكثر من 38 ألف سجين كُردي لمجرد الانتماء لقوميتهم وكأن كل كُردي هو متهم بالضرورة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات