عندما نُلقي نظرة على خريطة الأحداث السياسية في سوريا لعام 2023، نجد أنها تختلط كالخيوط المتشابكة في نسيج معقّد، فهذا العام شهد عودة سوريا إلى حضن “الجامعة” العربية بعد انقطاع دام لسنوات طويلة، وكأنها تستعيد مكانتها في الساحة الإقليمية بعد غياب طويل. ولكن، هل هذه العودة تشير إلى حصاد سياسي واعد أم أنها مجرد بداية لمرحلة جديدة من التحديات؟

في آواخر عام 2023، ظهرت سوريا بشكل واضح في ساحة الصراع الأميركي – الإيراني، حيث يتسارع تطور الأحداث على الساحتين الاقتصادية والأمنية، وهنا ما يزال سؤالٌ يتردد: هل ستكون سوريا مجرد “حقل معركة” للتصعيد بين القوتين، أم هل ستجد البلاد طريقاً للخروج من هذا الصراع المعقّد؟

في هذا السياق، يستبعد الكثيرون قدرة الحكومة الحالية تجاوز الأزمة الاقتصادية والمالية التي أدت إلى انخفاض حادٍ في قيمة عملتها، فضلا عن قدرة الدبلوماسية السورية استثمار العودة إلى “الجامعة” العربية لتحقيق انفراجٍ في الملفات الدولية المعلّقة، خصوصا مع الأحداث الأخيرة التي انفجرت على حدود البلاد الجنوبية مع الأردن.

السعودية أهم الانتصارات

تعتبر السلطة السياسية في سوريا أن أهم انتصار حققته على مدى عام 2023 بعد انعزال تام منذ عام 2011، هو تسلّم السعودية أمس الأحد، أوراق اعتماد السفير السوري لدى المملكة المعيّن حديثا، أيمن سوسان.

رئيس الإمارات، محمد بن زايد آل نهيان (إلى اليمين) يلتقي بالرئيس السوري بشار الأسد (يسار) في قصر الوعان (قصر الأمة) في أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة في 19 مارس 2023. (تصوير الديوان الرئاسي الإماراتي / غيتي)
رئيس الإمارات، محمد بن زايد آل نهيان (إلى اليمين) يلتقي بالرئيس السوري بشار الأسد (يسار) في قصر الوعان (قصر الأمة) في أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة في 19 مارس 2023. (تصوير الديوان الرئاسي الإماراتي / غيتي)

وزارة الخارجية السعودية أوضحت في بيان، بأنه “نيابة عن سمو وزير الخارجية، وكيل الوزارة لشؤون المراسم عبدالمجيد السماري، يتسلّم نسخة من أوراق اعتماد سفير الجمهورية العربية السورية المعيّن لدى المملكة، محمد أيمن سوسان”.

هذا التطور جاء بعد أن أعلنت الرياض في أيار/مايو الماضي، “استئناف عمل بعثتها الدبلوماسية في سوريا”، وفق بيان لوزارة الخارجية، بعد 11 عاما من إغلاق سفارتها في دمشق في آذار/مارس 2012.

عودة العلاقات العربية مع حكومة دمشق كانت بعد مأساة إنسانية فتحت الباب أمام السلطة السياسية من أجل اختبار مدى مصداقيتها، ففي شباط/فبراير 2023، ضرب زلزال مأساوي تركيا وشمال سوريا، أسفر عن فقدان حياة 23 ألف شخص في البلدين وتسبب في دمار هائل في مناطق سيطرة دمشق والمعارضة في شمال وغرب سوريا. 

كان هذا الحدث الكارثي بمثابة فتح بابٍ لتدفق المساعدات العربية بشكل رئيسي إلى سوريا، وشكّل نقطة تحول في المقاربة العربية نحو استعادة سوريا لمقعدها في جامعة “الدول العربية”.

الرئيس السوري بشار الأسد على إثر ذلك، سُمح له بالمشاركة في القمة التي عُقِدَت في جدة بالمملكة العربية السعودية، حيث عبّّر عن تفاؤله بشأن المرحلة الجديدة التي قد تشهدها المنطقة. 

فيما يتعلق بالرئاسة السورية، وعقب اجتماع عّمان التشاوري، شهدت تحوّلا كبيرا في سياق توسيع رحلات الأسد إلى الخارج، حيث شارك في قمة جدة بالمملكة العربية السعودية. بعد هذه القمة، قام بزيارة رسمية إلى الإمارات، وأيضًا قام بزيارة إلى موسكو حيث التقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولاحقًا في زيارة رسمية إلى بكين في 22 أيلول/سبتمبر، التقى بالرئيس الصيني شي جين بينغ.

ورغم تركيز الأسد في القمّة العربية على أهمية العمل العربي المشترك لتحقيق التضامن والسلام في المنطقة، وعبّر عن أمله في أن تكون القمة بداية لفترة جديدة من التنمية والازدهار بدلًا من الحروب والدمار، وأكد أن هذه الفرصة تاريخية لإعادة ترتيب الأوضاع بأقل قدر من التدخل الأجنبي، إلا أنه منذ آب/أغسطس الرياح لم تجري بما تشتهيه دمشق.

الوضع يتفجر

شروط الحل التي وضِعت عربيا بعد الاجتماع مع وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، في جدّة وعمّان، والتي تم التعبير عنها من خلال سياسة “الخطوة بخطوة” لمعالجة الملفات الإشكالية، لم تشهد تغييراً يتّسق مع الرؤية العربية المعبّر عنها في القرارات الختامية. 

صورة تظهر لوحة إعلانية تظهر صورة للرئيس السوري بشار الأسد وهو يرتدي نظارة شمسية بينما يرتدي زي المشير العسكري، معروضة في وسط العاصمة دمشق، مع تعليق أدناه باللغة العربية: "إذا نطق غبار البلد سيقول بشار الأسد". (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)
صورة تظهر لوحة إعلانية تظهر صورة للرئيس السوري بشار الأسد وهو يرتدي نظارة شمسية بينما يرتدي زي المشير العسكري، معروضة في وسط العاصمة دمشق، مع تعليق أدناه باللغة العربية: “إذا نطق غبار البلد سيقول بشار الأسد”. (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

في هذه القرارات، أكد القادة العرب اتفاقهم على ضرورة تعزيز التعاون العربي المشترك لمواجهة آثار اللجوء والإرهاب وتهريب المخدرات. كما أشاروا إلى أهمية اتخاذ خطوات عملية وفعّالة للتدرّج نحو حل الأزمة السورية. ومع ذلك، ظلت العُقدة تحوم حول حول مدى استجابة السياسات الحالية للأسد لتلك الشروط وإلى أي مدى تعكس تلك السياسات إرادة العمل الفعّال لمواجهة التحديات المعقّدة التي تواجه المنطقة.

اللقاءات بين لجنة الاتصال العربية بشأن سوريا والحكومة السورية، لم تسفر عن تحقيق أي خرق سياسي في حل الأزمة، وبحسب صحيفة “الشرق الأوسط”، ونقلاً عن مصادر دبلوماسية عربية، فإن اللجنة الوزارية العربية بشأن سوريا، قررت تجميد اجتماعاتها بحكومة دمشق، نظراً لعدم تجاوبها مع خريطة الطريق التي رسمتها لإعادة تطبيع العلاقات العربية – السورية.

أيضا على الرغم من جهود السلطات الأردنية والسورية في عقد اجتماع أمني في تموز/يوليو 2023 لمواجهة التهريب عبر الحدود بين الأردن وسوريا، إلا أن ملف اللاجئين لم يشهد أي تحسّنٍ يُذكر. كما استمرت محاولات التهريب بشكل مُنظَّم، حيث شهدت البلاد عدة حالات خلال شهر كانون الأول/ديسمبر الجاري، الأمر الذي دفع الأردن إلى استخدام سلاح الجو للتصدي لها.

في الوقت نفسه، لا تزال السلطة متفرّقة وتواجد القوات الأجنبية في البلاد ثابتاً، حيث تستقر في قواعد ثابتة وتسيطر على أجزاء واسعة من الجغرافيا منذ عام 2020 على الأقل. “حزب الله” والميليشيات المرتبطة بإيران ظلت قوية الحضور، وشهدت البلاد زيادة في الضربات الإسرائيلية خلال عام 2023، وتصاعدت إلى أقصى حدٍّ خلال حرب غزة، حيث أدت هذه الضربات إلى إخراج مطاري دمشق وحلب عن الخدمة تماماً لمدّة شهرين.

وفي سياق الحرب في غزة، تحوّلت سوريا إلى ساحة صراع بالوكالة بين إيران والولايات المتحدة مباشرةً عبر وكلائهما، وقد أعلنت ميليشيات متحالفة مع إيران في شرق سوريا وشمال شرقها عن تنفيذ هجمات على القواعد الأميركية، في حين ردّت القوات الأميركية بضرب مواقع تابعة لتلك الميليشيات، بالإضافة إلى ضربات استهدفت “الحرس الثوري” الإيراني، وفقًا لـ “وزارة الدفاع الأميركية” (البنتاغون).

العام الأسوأ لليرة السورية

هذا الوضع والجمود السياسي الذي فرضته دمشق على الحل العربي، أثّر بشكل مباشر على الواقع الاقتصادي في البلاد، متسببا في هبوط حاد في قيمة العملة، لاسيما بعد قرارات زيادة الأسعار التي أدت إلى خلق وضع اجتماعي جديد تسبب بخروج الاحتجاجات مرة أخرى بدءا من 10 آب/أغسطس، وتركزت في السويداء، لتتحول إلى كرة نار تتخطى البُعد المعيش. 

سكان يفرون من بلدة نوى جنوب سوريا، بسب القتال بين قوى معارضة والجيش السوري. (تصوير أحمد المسلم/وكالة الصحافة الفرنسية)

قيمة الليرة السورية أمام الدولار الأميركي بنسبة وصلت إلى 113.5 في المئة على أساس سنوي خلال عام 2023، إذ شهدت الأشهر السّتة الأخيرة من السّنة تغيرات كبيرة على قيمة الليرة، ويُعد انخفاض الليرة أمام الدولار عام 2023، الأكبر الذي يتم تسجيله في تاريخها.

وسجّلت الليرة خلال تموز/ يوليو الماضي أكبر تغير في قيمتها، مسجّلة تراجعاً بنسبة تجاوزت 37% على أساس شهري، من سعر صرف أمام الدولار الواحد بـ 9025 ليرة سورية في بدايته، لتصل إلى 12400 ليرة بنهاية الشهر الجاري.

كما انخفضت قيمة الليرة السورية على صعيد النشرات الرسمية التي يصدرها مصرف “سوريا المركزي” بنسبة وصلت إلى 180.8 في المئة، إذ وصل سعر صرف الدولار بحسب أول نشرة للعام الحالي باسم نشرة “المصارف والصرافة” إلى 4522 ليرة سورية، بينما بحسب أحدث نشرة صادرة في 21 من كانون الأول الحالي، بلغ سعر صرف الدولار 12700 ليرة.

في الحقيقة أن أسباب ارتفاع الأسعار في سوريا تكاد لا تنتهي، سواء أكانت هناك حرب أو لا، فالمواطن اعتاد على الارتفاع الدوري لأسعار مختلف السلع والخدمات، أمّا الحجّة الجديدة فإن التجار يردّدونها كجملةٍ جديدة كي لا يضطروا لتكرار الحُجج القديمة المتعلقة بانخفاض قيمة الليرة السورية وارتفاع تكاليف الإنتاج وغيرها من أسباب انفجار الأسعار.

الحكومة اعترفت في عديد المناسبات برغبتها تصدير المواد الغذائية من سوريا وعلى حساب استهلاك السكان، حيث اعترف رئيس الحكومة، حسين عرنوس، منذ أيام بأن الأجر الشهري للعاملين في الدولة لا يتناسب مع الظروف المعيشية، لذلك فإن الحكومة درست كل الخيارات المتاحة؛ لكن لم تجد الحل.

علاوة على ذلك، موازنة الدولة للعام القادم شهدت زيادة بأكثر من مئة بالمئة مقارنة بموازنة العام الجاري، التي تم إقرارها نهاية العام الماضي، ولكن بالطبع فإن مختصين أكدوا أن هذه الزيادة وهمية، فيما تؤكد الحقائق أن الحكومة السورية خفّضت من الميزانية، وذلك فيما إذا تمّ حساب قيمة الميزانية بالدولار الأميركي، حيث إن التضخم المستمر أفقد الموازنة كثيرا من قيمتها، وبالتالي فإن قيمة الموازنة بالليرة السورية لن تحدد قيمتها الحقيقية.

جميع المؤشرات الاقتصادية تؤكد زيادة نسبة العجز في الموازنة العامة رغم تخفيضها، ما يعني أن الحكومة ستلجأ إلى الطرق المعتادة لتغطية هذا العجز، عبر طباعة العملة أو تخفيض النفقات على الخدمات العامة والدعم الحكومي، ما يعني أن السوريين على موعد مع عام سيكون مليئاً بالمصاعب الاقتصادية التي تُضاف إلى المصاعب التي يعيشونها حاليا.

أخيرا، يظل السؤال الأهم: ما مصير سوريا سياسيا واقتصاديا عام 2024، وهنا يوجد إجابتين، الأولى لدى بعض الفلكيين مثل ميشال حايك ومايك فغالي الذين يتوقعون تحسّن الوضع السياسي والاقتصادي لسوريا في العام الجديد 2024، حيث تنتهي آثار الحرب ويعود اللاجئون السوريون إلى وطنهم من جديد. ولكن هذه التوقعات لا تستند إلى أدلة ملموسة أو تحليلات علمية، بل إلى قراءات فلكية قد تكون غير دقيقة أو مبنية على رغبات شخصية.

أما الإجابة الثانية، فهناك بعض التحليلات السياسية والاقتصادية التي ترى أن الوضع في سوريا لا يزال معقّداً ومتأزماً، وأنه لا يوجد حلّ واضح أو سهل في الأفق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات