تمثل قضية اغتيال القياديين شكري بلعيد ومحمد البراهمي واحدة من القضايا المهمة على مستويين أو سياقيين بتونس، أولهما العدالة السياسية والثاني العدالة الجنائية، بما يفترض معه الوصول لحكم نهائي يجعل الأطراف سواء كانوا أفراداً أو جهات المتورطين بشكل مباشر معروفين ولا يتم التستر عليهم بل وعدم التعمية عن الأدوار الأخرى للمتسيدين المشهد السياسي في تلك الفترة التي باتت تعرف بالعشرية السوداء بقيادة “حركة النهضة”.

ولئن تبدو “حركة النهضة” في الأحوال كافة أمام مسؤولية سياسية رغم الاتهامات التي تطاول جماعات سلفية متشددة وضلوعها في اغتيال القياديين، فإن هيئة الدفاع عن القياديين بلعيد والبراهمي، كشفت عن مسألة لافتة في فترة سابقة تتصل بمحاولات مشبوهة لتسييس القضاء بل وتدمير وإتلاف بعض الأدلة في قضايا تمس أمن الدولة، وقال عضو هيئة الدفاع، كثير بوعلاق، إن هيئة الدفاع تقدمت بشكوى جزائية في حق جميع القضاة الذين تسلموا ملف “الجهاز السري” لأنهم تورطوا في الصد عن كشف الحقيقة والولوج إلى القضاء.

وما أشارت له هيئة الدفاع عن القياديين بلعيد والبراهمي يتقاطع مع أزمة تسييس القضاء في فترة حكم “حركة النهضة”، تحديداً في الفترة بين عامي 2013 و2014 والتي شهدت تصعيداً لأحد قيادتها نور الدين البحيري في منصب وزارة العدلة بحكومة “الترويكا” وظهرت بعض الممارسات والتحركات التي اعتبرها البعض من شأنها تقويض مسار العدالة أو الضغط على استقلاليتها لجهة السيطرة على الجهاز القضائي. وكانت القاضية التونسية والتي تولت في السابق رئاسة جمعية القضاة التونسيين كلقوم كنو، قد انتقدت الوزير في حكومة “الترويكا” وقالت إنه “نفذ حركة قضائية بمفرده وعلى مقاسه بدعوى تدشين المجلس الأعلى للقضاء، وعمدت النهضة في توجهاتها على سياسة المماطلة حتى تتفادى إنشاء هيئة وقتية للقضاء العدلي”.

وألمحت القاضية التونسية إلى قيام الوزير المنتمي للحركة الإسلاموية بتعيين مجموعة من الأشخاص المحسوبين على “النهضة” “وآخرين تتعلق بهم شبهات وملفات فساد في مواقع القرار وأهمها محاكم العاصمة تونس التي تنظر في قضايا البعد السياسي والحقوقي”.

بعد أحد عشر سنة من التعثر، بدأت في تونس محاكمة المتهمين في اغتيال الشهيد شكري بلعيد- “الصورة أرشيفية من الإنترنت”

إلى ذلك، بعد أحد عشر سنة من التعثر، بدأت في تونس محاكمة المتهمين في اغتيال الشهيد شكري بلعيد، المحامي والقيادي في “حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد” وهو حزب يساري تونسي. ومن المنتظر أن تنتهي اليوم جلسات استنطاق المتهمين في قضية اغتيال بلعيد والتي انطلقت يوم 6 شباط/ فبراير 2024، وسط دعوات بضرورة أن تكون هذه الجلسات علانيّة وبحضور الصحفيين ووسائل الإعلام.

فيما توقعت المحامية وعضو هيئة الدفاع عن شكري بلعيد، إيمان قزارة، أن تكون جلسة اليوم الجمعة، آخر جلسة استنطاق للمتهمين، ليفسح المجال لاحقاً أمام المحامين لتقديم مرافعاتهم.

اغتيال بلعيد والبراهمي منعرجاً بتاريخ تونس

ونفذ الاغتيال رمياً بالرصاص في السادس من شباط/ فبراير عام 2013، حيث أعلن تنظيم “داعش” الإرهابي في كانون الأول/ ديسمبر 2014 مسؤوليته عن اغتيال القياديين في الجبهة الشعبية شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي.

وتشمل جلسات استنطاق المتهمين 23 متهماً من بينهم، من هم في حالة سراح وآخرون موقوفون في تهم “القتل العمد والتحريض على ارتكاب جرائم إرهابية والانضمام إلى مجموعات لها علاقة بتنظيم إرهابي، وجمع تبرعات لتمويل أشخاص لهم علاقة بأنشطة إرهابية، وتوفير أسلحة ومتفجرات لصالح تنظيم له علاقة بجرائم إرهابية”.

ولازال ملف الاغتيال متواصلاً باعتبار وجود تحقيقات أخرى مفتوحة في من خطط ودبر ومن قام بحمايتهم على المستوى السياسي وعلى المستوى القضائي، إذ إن ملف شكري بلعيد له علاقة وطيدة بملفات أخرى من بينها ملف “الغرفة السوداء بوزارة الداخلية ” وملف “الجهاز السري”.

ومثلت عملية اغتيال بلعيد، ومن بعده البراهمي في نفس العام 2013، منعرجاً في تاريخ تونس حيث ساهمت الاغتيالات في نشأة أزمة سياسية في البلاد غيرت مسار الحكم وانتهت بتغيير الحكومة الائتلافية المكونة من “الترويكا” أحزاب النهضة والمؤتمر والتكتل، وتعويضها بحكومة من المستقلين وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في 2014.

واعتبر عبد المجيد بلعيد (شقيق شكري) أن تدابير الرئيس التونسي قيس سعيد “أعادت الأمل لكشف حقيقة اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وقبل ذلك لم تكن لنا ثقة في القضاء باعتبار أنه وقع التلاعب بالملف مع تفكيكه عمداً”.

ويتهم حزب بلعيد “الوطنيون الديمقراطيون الموحد” وهيئة الدفاع عنه، “حركة النهضة” بالوقوف وراء اغتيال بلعيد، ويحملها المسؤولية السياسية والأخلاقية، وهو الأمر الذي نفته النهضة مراراً، معتبرة أنها أكثر الأطراف تضرراً من جريمة الاغتيال بتخليها عن السلطة والحكم في 2013، زاعمة أن “هذه الاتهامات مجرد توظيف سياسي للقضية دون براهين، وإثارة للفتنة بهدف إطاحة مسار الانتقال الديمقراطي”.

ويفسر القيادي في “حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد”، منجي الرحوي، تعطل مسار القضية بوجود أذرع سياسية اخترقت أجهزة الدولة، بما في ذلك القضاء، وهو ما يُفسّر عدم تقدّم قضيّة اغتيال الشهيديْن وكشف الحقيقة كاملة”.

واستدرك بالقول “لكن اليوم هناك شيء ما تغيّر، ووكيل الجمهورية الذي كان موجوداً وجاثماً على تقدّم مثل هذه القضايا وكان له دور في تفتيت هذه القضية والتستّر على الحقيقة، لم يعد اليوم موجوداً”.

من أسباب تأخير المحكمة إلى اليوم، حال المنشأة القضائية، التي تعاني من غياب الإمكانيات البشرية واللوجستية لدى القضاء، إضافة إلى سيطرة “حركة النهضة” على القضاء بعد الثورة.

عضوة هيئة الدفاع عن بلعيد، إيمان قزارة لـ”الحل نت”

وفي بيان لها بتاريخ 8 فبراير/ شباط الجاري، دعت “حركة النهضة” إلى محاكمة علانية في قضية الاغتيالات التي عرفتها تونس وبثها مباشرة لكشف الحقيقة أمام الشعب التونسي، مجددة حرصها على كشف الحقيقة كاملة حول اغتيال شكري بلعيد.

وضع حد للتلاعب

واليوم يؤكد مراقبون أن مسار القضية يقترب من الحسم حيث أشاد عميد المحامين حاتم مزيو بانطلاق المحاكمة بعد 11 سنة من الانتظار، مشيراً إلى أن ذلك يعد إيجابياً للعدالة ولتونس بصفة عامة.

وفي هذا الصدد أكد المحامي عبد الناصر العويني عضو هيئة الدفاع عن شكري بلعيد أن الهيئة تعتقد أن لديها 70 بالمئة من الحقائق المتعلقة باغتيال بلعيد مع تواصل العمل من أجل الكشف عن بقية الحقائق والتي سيتم تقديمها تباعاً إلى القضاء.

وأوضح العويني خلال ندوة صحفية عقدتها الهيئة مؤخراً أن هذه الأخيرة تتعامل حالياً مع القضاء دون حواجز سياسية ودون إخفاء الملفات والحقائق والذي تم تسجيله خلال الفترة الماضية، واصفاً استنطاق المتهمين داخل جلسات المرافعة منذ أسبوعين بانطلاق استنطاق الحقيقة في هذه القضية.

وشدد العويني على أن الهيئة استعدت بما يلزم من الملفات والوثائق والحجج من أجل جلسات استنطاق المتهمين.

تقاطع الزمن السياسي والقضائي

وعن انتفاء القيود والصعوبات التي رافقت ملف قضية بلعيد، قضائياً، تقول عضوة هيئة الدفاع عن شكري بلعيد، أن القضية شهدت تعطيلاً كبيراً وتواصلت لأكثر من 11 سنة وتم تقديم شكايات منذ أكثر من سنة ولازلت المحطات القضائية متواصلة.

وأضافت إيمان قزارة في تصريح لموقع “الحل نت”، بأن معركة هيئة الدفاع كانت أساساً مع النيابة العمومية التي كانت تمانع في النظر بخصوص الشكايات، ومن أسباب التعطيل حسب تقديرها وضعية المرفق القضائي الذي يعاني من غياب الإمكانيات البشرية واللوجستية لدى القضاء، فضلاً عن سيطرة “حركة النهضة” على القضاء بعد الثورة.

وحول مسؤولية النهضة عن هذا الاغتيال، أفادت قزارة بأن هيئة الدفاع اشتكت بقيادات في هذا الحزب منذ سنة 2018، أبرزهم كمال البدوي وكمال العيفي ومصطفى خذر. وتتواصل الأبحاث مع الطاهر البوبكري وهو مستشار علي العريض، مؤكدة وجود تهم وجهت لهم بشكل رسمي تخص الانضمام إلى تنظيم إرهابي يؤدي إلى وفاق إرهابي ومن ثم إلى الاغتيال.

وشددت قزارة في حديثها الخاص لـ”الحل نت”، على أن الاستنطاق للمتهمين وعددهم 23 سينتهي اليوم الجمعة، على أن تبدأ المرافعات يوم الثلاثاء القادم، متوقعة أن يتم في آخر شباط/ فبراير  الجاري أو بداية شهر آذار/ مارس إصدار الحكم الابتدائي ضد مجموعة التنفيذ.

فرضيات حلّ “حركة النهضة”

في المقابل، يحذر أنصار “حركة النهضة” من فرضية توظيف اغتيال بلعيد لتصفية الحساب مع هذا الحزب. وفي هذا السياق يبين الإعلامي والخبير في الدراسات الاستراتيجية كمال بن يونس أنه “خلافاً لما يروج عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي لم يكونا من بين رموز اليسار المتطرف والإقصائي” رغم انتقاداتهما الحادة لخصومهما، بما في ذلك داخل الجبهة الشعبية ( اليسارية القومية )” وفي الائتلاف الثلاثي الحاكم وقتها ولقيادات أحزاب النهضة والمؤتمر والتكتل وخاصة لراشد الغنوشي والمنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر ولرموز “التيار السلفي المتشدد” في تنظيمات “أنصار الشريعة” و”القاعدة” و”داعش”.

وتابع كمال بن يونس في حديثه لـ”الحل نت”، أن “التحقيقات القضائية والأمنية المطولة التي شاركت فيها مخابرات غربية في عهد الرئيس الباجي قائد السبسي أثبتت أن أغلب منفذي جريمتي الاغتيال من بين السلفيين المتشددين التابعين لتنظيم أنصار الشريعة الذي صنفته السلطات الأمنية والسياسية في تونس تنظيماً إرهابياً منذ منتصف 2013”.

ويلفت بن يونس إلى أنه حسب ما ورد في قرارات ختم الأبحاث ودائرة الاتهام فإن أغلب المتهمين في التخطيط والتنظيم ينتمون إلى مجموعات “سلفية متشددة” قريبة من “أنصار الشريعة”. في المقابل يعتقد محامون من هيئة الدفاع عن شكري بلعيد أن قياديين في “حزب النهضة” وفي حكومة “الترويكا” يتحملون مسؤولية سياسية في جريمة الاغتيال وأعلنوا أنهم سوف يرفعون قضايا أخرى لمحاولة إدانة زعماء من النهضة و”جناحها السري”، لتبقى كل السيناريوهات واردة.

من المتوقع أن تستغرق الأحكام القضائية بخصوص قضية اغتيال بلعيد بعض الوقت- “الصورة من مركز الاتحاد للأخبار”

ويعتقد مراقبون أن القضية ستكون لها تداعيات سياسية في حال إثبات القضاء تورط عناصر من “حركة النهضة”. وحول ذلك، يعتقد بن يونس أن “قيادات النهضة وشركاءها في الحكم خلال عشرية 2012-2021 أصبحت مهمشة في المشهد السياسي الحالي وضعفت كثيراً منذ منعرج 25 تموز/ يوليو 2021. وفي نفس الوقت تصدعت الجبهات السياسية والحزبية التي اتهمتها سابقاً بالضلوع في جريمتي اغتيال بلعيد والبراهمي، وبالتالي فلا أتوقع أن تنجح الحملات الإعلامية المتبادلة على هامش المحاكمات في توظيف القضية مجدداً لضرب حزب النهضة وشركائه السياسيين السابقين ولا في إعادة توحيد اليسار في جبهة شعبية جديدة قادرة على التأثير في المشهد السياسي الجديد ولا في المسار الانتخابي القادم”.

وعن المسؤولية السياسية والأخلاقية للنهضة في قضية بلعيد، يعتبر كمال بن يونس أن إدانة شخصيات سياسية من الأحزاب التي حكمت في عشرية 2012-2021 وخاصة بعض قيادات حزبي النهضة والمؤتمر بزعامة راشد الغنوشي والمنصف المرزوقي، رهين الكشف عن ملفات النيابة العمومية والأمن. مبيناً “حالياً كل ما وقع الكشف عنه يدين أساساً تنظيمات سلفية متشددة”.

في المقابل، يعتقد الإعلامي بأن تحميل حكومة “الترويكا” المسؤولية السياسية عن “تغول” السلفيين وعن العنف الذي مارسته مجموعات وشخصيات منهم وبصفة أخص تلك التي تدربت على السلاح في “بؤر التوتر”، مثل ليبيا وسوريا والعراق ثم عادت إلى تونس لترتكب جرائم إرهابية، أمر منطقي، لأن المسؤولية في هذه الحالة سياسية أساساً، والاتهامات قد توجه إلى أغلب الزعماء السياسيين والنقابيين الكبار الذين تصدروا الحكم منذ كانون الثاني/ يناير 2011.

من المتوقع أن تستغرق هذه الأحكام القضائية بعض الوقت، إذ ستمر بطوري الاستئناف والتعقيب، لكنها ستفتح الباب أمام ارتدادات، سواء على “حركة النهضة” أو على الساحة السياسية ككل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات