بعيدا عن الرأي العام، تعيش الصين تهديدا خفيا يتعلق بحجم المديونية الداخلية، إلى جانب حالة عدم الاستقرار في الاقتصاد الكلي، والذي يهدد مخططات الحزب “الشيوعي” الحاكم، حول بناء أقوى اقتصاد عالمي، حيث يتداعى القطاع العقاري الذي يشكل أحد أهم ركائز نمو الناتج المحلي الصيني، بالتزامن مع تراجع نمو الاقتصاد بشكل عام، جراء العديد من الأسباب.

بين الحكومة المركزية في الصين، وحكومات المقاطعات والمدن الصينية، ثمة إشكالية خفية لكنها متفاقمة تنذر بانفجار ربما يدفع بالبلاد إلى حالة من عدم الاستقرار، وتتعلق تلك الأزمة بتراكم الديون على الحكومات المحلية، في حين تسعى الحكومة الصينية إلى إيجاد مخرج يمكن من خلاله سداد تريليونات الدولارات، بشكل ميسّرٍ وتدريجي على الطرفين، بما لا يؤدي لانفجار الأزمة بشكل كارثي.

فالأزمة على وشك أن تزداد سوءا وتتحوّل إلى عبء اقتصادي طويل المدى، لاسيما وأنها دفعت بشكل لا يُستهان به إلى تراجع الاستثمارات وتحفيز القلق لدى المستثمرين، علاوة عنما يمكن أن تتسبب به في دفع الحكومات المحلية إلى إجراء تخفيضات في الإنفاق أو تحويل الأموال بعيدا عن مشاريع تعزيز النمو، وذلك لمواصلة سداد الديون المترتبة عليها، الأمر الذي ينذر بأن ينعكس على الوضع الصيني الداخلي.

الديون الخفية تهدد الصين

بحسب تقديرات بنك “غولدمان ساكس” الاستثماري، يصل حجم الديون المحلية على المقاطعات والمدن الصينية إلى 94 تريليون رينمينبي ما يعادل 13 تريليون دولار، وتلك هي الديون الإجمالية التي تضم الدين الرسمي المسجل في كشوف حسابات وميزانيات تلك المقاطعات والمدن والإدارات المحلية الأخرى.

ذلك بالإضافة إلى قروض تصل إلى 59 تريليون رينمينبي، أي ثمانية تريليونات دولار، مما يسمى “الدين الخفي”، أي الديون المتراكمة على المحليات لصناديق تمويل مشروعات الإدارات المحلية، بالتالي أن الدين الرسمي في دفاتر المكاتب المالية للإدارات المحلية هو في حدود 25 تريليون رينمينبي، ما يعادل 3.5 تريليون دولار، بينما إجمالي الدين الفعلي يقارب أضعاف ذلك الرقم.

على هذا الأساس، كانت وكالة “بلومبرغ” الأميركية، قد لفتت -في تقرير سابق لها- إلى أن هذه الأزمة تضع المشروع القومي للرئيس الصيني، شي جين بينغ، على المحك والمتعلق بطموحه لمضاعفة مستويات الدخل بحلول عام 2035 مع تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وهو أمر أساسي للاستقرار.

خصوصا وأن شيخوخة السكان وتقلص عدد سكان الصين؛ يعني أن العديد من المدن لا تملك القوة العاملة للحفاظ على النمو الاقتصادي أو حتى دفع الضرائب، الأمر الذي يؤدي إلى أن تكون ثلثي الحكومات المحلية غير قادرة على سداد ديونها في الوقت المحدد، ذلك لأن الحكومة المركزية وإن كانت قادرة على إبقاء الأمور مستقرة على المدى القصير من خلال مطالبة البنوك بتمديد ديون المدن والمقاطعات المحلية، إلا أنه لا يمكن تمديد القروض.

في هذا الصدد، أوضح خبير الاقتصاد علي قيسية، أن النمو الاقتصادي الذي حصل في الصين، خلال العقود الأخيرة، كان بواقع الحال مرتفعا بنسبة 10 بالمئة فما فوق، لكن الآن وفي ظل ما يحصل من تباطؤ في النمو وصل إلى حد 4.84.6، تسبب بفقدان الاقتصاد الصيني لزخمه، وقدرته على جذب استثمارات جديدة، وهو ما انعكس على الخطط التنموية داخليا.

الديون الخفية تفاقم مشكلة الاستثمارات بالصين

ففي البداية، بحسب قيسية الذي تحديث لموقع “الحل نت”، كان نموذج الاقتصاد الصيني ناجح، ذلك لأنه كان هناك تبادل مالي مباشر، وتدفقات نقدية، بالمقارنة مع نمو المديونيات، لكن في الآونة الأخيرة بات الأمر عكسيا، حيث حصل نمو في المديونيات مقابل تواضع في رؤوس الأموال الجديدة التي تدخل البلاد، وذلك كان إما بسبب العقوبات الأميركية أو العقوبات التجارية، وما تخللها من حرب تجارية بين بكين وواشنطن، وهذا اندرج تحت تراجع الرغبة الغربية في استثمارات جديدة في الصين، وهو كان سببا أيضا في تنامي مشكلة المديونيات.

تشييد الكباري والجسور سببا في تراكم مديونية الصين الداخلية/ إنترنت + وكالات

إذ بات التوجه الغربي نحو استثمارات بديلة عن تلك التي كانت تنعش الصين، وأصبح البديل باتجاه فيتنام وبنغلاديش تحديدا في مجال صناعة السيارات في فيتنام وفي مجال الألبسة في بنغلاديش، أشار خبير الاقتصاد، وأضاف أنه، علاوة على ذلك، فإنه عندما يكون هناك حزب واحد حاكم وهو وحده من يخطط للنظام، طالما لا يأخذ بعين الاعتبار العوامل العكسية، أو التغذية الراجعة من المشاركين في السوق إن كانوا مستثمرين أو مستهلكين.

لذلك، يكون التخطيط فيه نوع من الدكتاتورية، وبطبيعة الحال تاريخيا أن جميع النماذج التي كانت تخطط بطريقة شمولية مركزية كان يُعاب عليها كثير من الثغرات، وهو ما أنتج عن المديونية الصينية، والتي باتت تعتبر مؤشرا خطيرا ينذر بعدم الاستقرار، حتى وإن لم تكون تؤذن بأن هناك أزمة شاملة في الاقتصاد الصيني، لكن قد يفاقم ذلك من أزمة القطاع العقاري الذي يشهد انهيارا في أهم وأكبر شركات قطاع العقاري مثل شركة “إيفر جراندي”، وفق قيسية.

قيسية، لفت في ختام حديثه حول أزمة القطاع العقاري التي يمكن أن تتفاقم مع أزمة المديونية، إلى أن “البنك المركزي” الصيني، تدخل أكثر من مرة بخفض سعر الفائدة وتقديم التسهيلات للمستثمرين في القطاع العقاري، وأن الأمل في ذلك أن يتم سحب فتيل الأزمة من هذا القطاع، لأنه في حال انهيار هذا القطاع في الصين، قد تتوسع الأزمة لتشمل قطاعات أخرى.

أزمة الديون الداخلية في الصين، برزت منذ كانون الأول/ديسمبر الماضي، عندما أوشكت الإدارة المحلية في مدينة زوني، ثاني أكبر مدن إقليم غويجو، على الإفلاس المالي مع تخلّفها عن سداد استحقاقات ديون في موعدها، وهو ما سلط الضوء على ما تعانيه الحكومات المحلية في كل المقاطعات الصينية تقريبا من تراكم الديون، ما تسبب بنسبة عجز في ميزانياتها.

من ولدت مديونية الصين الخفية؟

يشار إلى أن، الحجم الأكبر من ديون وقروض الحكومات المحلية في المقاطعات والمدن الصينية، كان لتمويل مشروعات بنية تحتية مثل الكباري والجسور والطرق وغيرها، فقد استمر ضخ الاستثمارات فيها لسنوات في وقت لا يتوقع منها أي عوائد قريبة، لاسيما وأن الإدارات المحلية اعتمدت في توفير جزء من التمويل على بيع الأراضي، التي تمثل أكبر الأصول التي تخضع لسيطرتها، لكن ذلك المصدر للموارد تضاءل حتى كاد ينتهي.

الديون الداخلية تهدد مشروع حكم الرئيس الصيني/ (AP)

نتيجة لذلك، بلغت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي 62 بالمئة، ليصبح إقليم غويجو أكثر أقاليم الصين مديونية عامة، وإذا أضيفت ديون الإقليم الخفية، التي تأتي من الصناديق وشركات الاستثمار التي تبني مشاريعها بالدين الآجل في صورة سندات، تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي إلى 137 بالمئة.

تلك الصناديق وشركات الاستثمار هي كيانات أنشأتها الحكومة لتمويل مشروعات الأقاليم خارج كشوف الحسابات الجارية وميزانيات الإدارات المحلية، وكانت الحكومة الصينية أنشأت أول صندوق من تلك الصناديق وشركات الاستثمار المحلية عام 1998 ليتولى تمويل إنشاء طريق سريع في البلاد.

لكن بعد ذلك توسع إنشاء تلك الصناديق عام 2009 مع طرح الحكومة المركزية خطة تحفيز بقيمة أربعة تريليونات رينمينبي، ما يعادل 550 مليار دولار، لتشجيع النمو في الأقاليم، إذ موّلت البنوك الصينية تلك الصناديق وشركات الاستثمار باعتبار سندات دينها مأمونة لأنها مضمونة حكوميا.

وفقا لذلك، فإنه أمام الصين واحدا من أكبر التحديات الاقتصادية، حيث يمكن أن يساهم بشكل كبير في زعزعة الاستقرار الاقتصادي، علاوة ما يمكن أن تنسحب عليه الأزمة بالنسبة للاستقرار الاجتماعي وحتى السياسي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات