ربما لم يكن هذا شائعا من قبل لكنه واقعا، فلم تعد الفلبين كما هي في تلك النمطية التي طالما عرفت عنها؛ الدولة الفقيرة والتي تعاني من اضطرابات سياسية وأمنية كثيرة، فمانيلا عاصمة الفلبين الآن باتت مركزا لاستقطاب الدول العظمى، مع صعود اقتصادي يربك حسابات الصين، فما سر ذلك، ولماذا تنظر كل الدول الطموحة إلى تلك الدولة الأسيوية البالغ عدد سكانها 110 مليون نسمة بحذر شديد.

 الفلبين الواقعة في الجنوب الشرقي من دولة القارة الآسيوية، تعد واحدة من جمهوريات القارة في غرب المحيط الهادي، وتضم مجموعة من الجزر، كما تمتد على حدود بحر لوزان من الشمال، وبحر سولو من الجنوب، وبحر الفلبين من الشرق، ومن الغرب يحدها بحر الصين، كما أنها تتمتع بوضع اقتصاد وجيوسياسي وجيوبولوتكي متقدم ومهم، وهو ما يؤشر إلى أهمية هذه الدولة وقيمتها وسط المعادلة الدولية، التي أثارت كل من الصين عملاق أسيا، وأميركا أقوى دول العالم.

في المقام الأول؛ تعتبر الفلبين دولة صناعية لديها اقتصاد يمر بمرحلة انتقالية من اقتصاد يعتمد على الزراعة إلى الاعتماد أكثر على الخدمات والتصنيع، وهو ما وضع اقتصاد الدولة في المرتبة 36 عالميا من حيث الناتج المحلي الإجمالي، بحسب تقديرات العام 2019، والثالث عشر في آسيا، وثالث أكبر اقتصاد في رابطة دول جنوب شرق آسيا بعد إندونيسيا وتايلاند، كما تعد السوق الفلبينية أحدى الأسواق الناشئة وسادس أغنى دولة في جنوب شرق آسيا من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، بعد البلدان الإقليمية سنغافورة وبروناي وماليزيا وتايلاند وإندونيسيا.

صعود الفلبين الاقتصادي

 فيما تشمل الصادرات الأساسية للفلبين على أشباه الموصلات والمنتجات الإلكترونية ومعدات النقل والملابس ومنتجات النحاس والمنتجات البترولية وزيت جوز الهند والفواكه، وهو ما عزز بالإضافة إلى كل ما سبق، التوقعات حول أن يكون الاقتصاد الفلبيني خامس أكبر اقتصاد في آسيا والرقم 16 في العالم بحلول عام 2050، وفقا لـ “برايس ووتر هاوس كوبرز”، الذي قدر أن هذا الاقتصاد سيكون من بين أغنى 12 أو 14 اقتصادا في العالم بحلول عام 2060.

 بيد أن تلك التقديرات تتعارض مع تقارير أخرى أعدتها مجموعة “إتش إس بي سي” البريطانية التي تقول إنه بحلول عام 2050، سيتجاوز اقتصاد الفلبين اقتصاد إندونيسيا لأن معدل النمو في الفلبين البالغ 6.5 بالمئة أكبر من نظيره الإندونيسي وهو الثاني بعد معدل النمو في الصين، وهو ما جعل الفلبين تكتسب أهمية بالغة في المشهد الدولي الإقليمي، لاسيما مع موقعها الجغرافي المحاذي للصين، وامتدادها الجيوبوليتيكي لتايوان التي لا تعترف بكين بها وتضمر العداء لها. 

اقرأ/ي أيضا: هجمات “داعش” في كابل.. إثبات لتوسع التنظيم أم مقدمة لحرب مع باكستان؟

 تاريخيا واستراتيجيا، تمتلك الفلبين شراكات سياسية واقتصادية مع اليابان والولايات المتحدة وسنغافورة وكوريا الجنوبية وهولندا وهونغ كونغ وألمانيا وتايوان وتايلاند، وحتى الصين، إلا أنها وبكونها واحدة من اقتصادات “شبل النمر” مع إندونيسيا وماليزيا وفيتنام وتايلاند، وإحدى أسرع الاقتصادات نموا في آسيا، ولما تمتلكه من أهمية استراتيجية في حرب محتملة على تايوان من قبل الصين، دفع الأخيرة لتوجيه بوصلة مضايقاتها إليها.

 ليس ذلك فحسب، بل إن أطماع بكين التي تنطلق من سياستها التوسعية في بحر الصين الجنوبي الذي يعد ساحة لنزاع إقليمي بين بلدان عدة تتنازع السيادة على أجزاء مختلفة منه، بما فيها الفلبين والصين، عزز الخلاف بين الجانبين، ودفع بالنظام “الشيوعي” الصيني، إلى استهداف مانيلا ضمن مخطط يهدف إلى تقويض صعودها الاقتصادي اللافت، وتقاربها من الغرب، معتمدة في ذلك التوغل في مناطق الفلبين البحرية، بخرق واضح للمواثيق الدولية والاتفاقات الإقليمية بين الدولتين، وهو جعل من بحر الصين الجنوبي بؤرة صراع متفجر.

 الفكرة؛ أن بكين ومانيلا تتنازعان منذ عقود حول جزر في بحر الصين الجنوبي، وتدعي كل البلدان المتمثلة بكل من فيتنام، بروناي، إندونيسيا، ماليزيا، الفلبين، وتايوان، المتاخمة للبحر سيادتها عليها، غير أن بين الفلبين والصين اتفاق تعاون أبرم منذ العام 2018، يقضي بالتعاون البحري بينهما، وينضم الإدارة حول تلك المساحات، بما في ذلك التنقيب عن النفط والغاز، والاستخدام المستدام للمعادن، والطاقة والموارد البحرية الأخرى، إلا أن بكين لم تلتزم بالاتفاق، وعلى الرغم من تمسك مانيلا في هذا الصدد بحكم صادر عن محكمة العدل الدولية سنة 2016، والذي وفقا له تسقط أسس الادعاء الصيني عن المنطقة.

 لكن بكين تحاول تصوير الأمر على أنه سيادي تاريخي، وتدعي سيادتها التاريخية الحصرية على منطقة بحر الصين الجنوبي، خصوصا على مستوى جزر سبراتلي المتنازع عليها، غير أن الأمر أبعد من ذلك، إذ إن منطقة بحر الصين الجنوبي تمتلك موقعا استراتيجيا، يتيح للمتحكم فيه من بسط نفوذه على ست من أهم اقتصاديات شرق آسيا المهمة، فضلا عن وضع اليد على منطقة مزدحمة بخطوط النقل البحري، وهو ما تسعى له الصين في ظل تنامي الاقتصاد الفلبيني، وتصاعد التجاذبات الدولية حول تايوان.

تضليل الصين ومطامحها التوسعية

 ادعاء بكين السيادة على هذه المنطقة بهدف حماية أمنها القومي، يؤكد بالضرورة أن الأمر هدفه تأكيد السيادة المزعومة على جزيرة تايوان. وتأكيدا على ذلك البعد الاستراتيجي لأي حرب محتملة ضد تايوان من قبل بكين، وللأهمية الاقتصادية في منطقة البحر الجنوبي، تعمل الصين في ظل التنازع الدولي مع جوارها الإقليمي الذي يرفض سيادتها على تلك المنطقة، على بناء جزر صناعية، حيث تم رصد أولاها سنة 2013، وبحلول 2016 بلغ العدد سبع جزر اصطناعية، وهي التي تحاول من خلالها خلق موضع قدم ونفوذ في محيطات خصومها، تايوان تحديدا، والفلبين.

 تعزيزا لما تقدم، أمر الرئيس الفلبيني المنتهية ولايته، رودريغو دوتيرتي، بإنهاء محادثات التنقيب عن النفط المشتركة بين بلاده والصين بسبب القيود الدستورية والمخاوف بشأن السيادة الفلبينية، وذلك احتجاجا على اختراق الصين للمياه الإقليمية، وخرقها للمواثيق، ما دفع مانيلا في الآونة الأخيرة، لتقديم أكثر من 300 احتجاج دبلوماسي إلى بكين بشأن توغل خفر السواحل الصيني وسفن الميليشيات البحرية في المنطقة الاقتصادية الخاصة بها، وهو ما انتهى بإيقاف الفلبين لعمليات الحفر قبالة سواحلها، وسط مطالبات صينية بالسيادة على مساحات واسعة من الممر المائي الغني بالموارد.

 الجدير بالذكر وسط هذا السيناريو الذي تحاول بكين تسويقه للعالم، وفي ظل استمرارها بالتحشيد ضد تايوان، تدرك جيدا في حال أي خطوة عدائية ضد تايوان تستدعي أولا عزلها عن محيطها، وهو ما تحاول فعله بكين من خلال التضيق على الفلبين في البحر الجنوبي بدعوى السيادة، وإذا ما تمكنت منه سيضع فرص نجاة تايوان من حصار وغزو صيني محتوم معدومة، كما سيضمن لبكين نصرا سريعا إذا ما نجحت في تكريس وجودها في لوزون؛ أهم جزيرة في الفلبين، وهو ما يفرض على الفلبين وواشنطن تعزيز علاقاتهما وشراكتهما العسكري، مع تمكين الجيش الفلبيني.

اقرأ/ي أيضا: البحر الأسود بؤرة توتر تُضاف لاستراتيجية “الناتو” الطويلة.. ما الأسباب؟

جزيرة لوزون الفلبينية الرئيسية، تقع خلف تايوان تماما، مما يسمح التوسع الأميركي المحتمل ضمن توسيع الشراكات مع مانيلا بالاستفادة من عمق موقعها للحماية من أي تهديدات صينية، وفضلا عن توفير غطاء جوي فوق تايوان. وتقع القواعد الجوية في لوزون أيضا بالقرب من “كاوشيونغ”؛ أكبر ميناء في تايوان، والذي من المحتمل أن يكون هدفا لهجوم برمائي صيني، كما تمتلك لوزون أيضا شبكة واسعة من الموانئ الساحلية، والكثير من الموانئ الطبيعية، وشبكة طرق وسكك حديدية تشق طريقها جنوبا إلى كل من ميناء مانيلا والعاصمة ومركز البنية التحتية للفلبين.

 كذلك، فإن مطار “باسكو” الذي يقع على جزيرة داخل قناة “باشي”، على مسافة متساوية بين الفلبين وتايوان، في حال عزله من قبل بكين، سيكون قاعدة استرداد مثالية للطائرات المتضررة العائدة إلى قاعدتها، في حين أن المطارات الرئيسية في شمال لوزون هي مطار “لاواج الدولي”، على بعد أقل من 700 كيلومتر من مضيق “تايوان”، و”توغويغاراو”، التي يمكن أن تدعم الطائرات العسكرية، ولكن لا يتموضع أي من المرفقين بالقرب من الميناء وليس لأي منهما خط سكة حديدية، في حين يوجد أيضا مطار في “كاجايان” الذي يمكن تطويره، واستخدامه للحماية، وهو ما تحاول بكين أيضا قطع الطريق عن استثماره من قبل الفلبين وواشنطن.

أيضا ما يدفع بكين لتحييد الفلبين، لسبب وجود شبكة من المطارات في وسط لوزون، لما يمكن أن توفره من غطاء للقواعد الشمالية ولتايوان، بما في ذلك “دانيلو أتينزا” و”فورت ماجسايساي”، بالإضافة إلى مطار “لواكان” في باجيو ومطار “سان فيرناندو”، وكلاهما لهما إمكانية الوصول إلى ميناء”سان فيرناندو” ووصلة سكة حديد إلى مانيلا.

 وعلى الرغم من أن كل من كوايان وباجاباج تفتقران إلى وصلات الموانئ أو السكك الحديدية، إلا أنه في جنوب لوزون، وبالقرب من مانيلا وعلى بعد ما يزيد قليلا عن 1000 كيلومتر من مضيق “تايوان”، يوجد ما مجموعه خمسة عشر مطارا. ستة منها يمكنها تشغيل طائرات عسكرية، بما في ذلك القواعد الجوية العسكرية الأميركية السابقة “كلارك” ومطار “سوبيك باي” الدولي و”سانجلي” و”رومبلون” و”ماريندوك”، وبالتالي من المحتمل أن تكون لوزون قادرة على استضافة العديد من الطائرات الغربية مثل تايوان، وأكثر من كيوشو وأوكيناوا وغوام اليابانية مجتمعة.

 أبعاد اقتصادية وجيوبوليتيكية

 إضافة إلى تلك الأبعاد، فإن توجه مانيلا، إلى قيادة نمو اقتصادي هو الأعلى في آسيا والمحيط الهادئ في عام 2023، لا سيما مع نجاحها بالخروج من الركود الناجم عن وباء “كورونا” مع نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.7 بالمئة العام الماضي، فضلا عن تمكن الاقتصاد من الحفاظ على الزخم حيث بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي 7.7 بالمئة من كانون الثاني/يناير إلى أيلول/سبتمبر 2022، بأسرع من هدف 6.5 إلى 7.5 بالمئة الذي كان مخطط له، بات مؤشر قلق يزعج بكين التي تحاول السيطرة على اقتصاد القارة.

 حيث سجلت الفلبين نموا أقوى من المتوقع في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7.6 بالمئة في الربع الثالث من العام وأعلى من 7.5 بالمئة، كما يتوقع أن تسجل أسرع نمو للناتج المحلي الإجمالي في المنطقة بنسبة 6.4 بالمئة العام المقبل، تليها فيتنام بنسبة 6.1 بالمئة، والصين بنسبة 5.1 بالمئة، والهند بنسبة خمسة بالمئة، وإندونيسيا بنسبة 4.7 بالمئة، وتايلاند بنسبة 3.9 بالمئة، وماليزيا بنسبة 3.8 بالمئة.

اقرأ/ي أيضا: التحديات والمصير.. هل يهدد قائد الجيش الباكستاني الجديد أمن الأسرار النووية؟

 ومع الصعود الاقتصادي، تتجه مانيلا إلى تعميق علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يعزز مخاوف بكين، حيث وافقت الولايات المتحدة على إنفاق 66.5 مليون دولار لبناء قواعد عسكرية في الفلبين اعتبارا من العام المقبل، وذكر مسؤولون في وزارة الدفاع الفلبينية أن واشنطن تتطلع إلى تمويل المزيد من المشاريع بموجب اتفاقية تعاون موقَّعة بينهما عام 2014.

من جهتها، تدرس الفلبين عرضا أميركيا لتزويدها بمروحيات ثقيلة، مثل طائرات “شينوك” المستخدمة على نطاق واسع، بعدما ألغت مانيلا اتفاقا لشراء مروحيات عسكرية من موسكو، نتيجة مخاوف من تعرضها لعقوبات غربية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وبالتوازي مع تأكيدات الرئيس الفلبيني الجديد فرديناند ماركوس الابن، دعمه لكوريا الجنوبية وجهودها لنزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية، وهو الذي تنظر إليه بكين على أنه يشكل تهديدا مباشر لها ولحلفائها.

على جانب آخر، تثير مشاريع الفلبين في مجالات تعزيز الطاقة قلق الحزب “الشيوعي” الصيني الذي يحاول تقديم نفسه مصدرا ومطورا للطاقة في القارة والمنطقة، في وقت تسعى مانيلا إلى شراكات في الطاقة مع كوريا الجنوبية، فيما يتعلق بدفعها لاستئناف المشروع المتعثر منذ فترة طويلة لبناء محطة للطاقة النووية.

خلاصة واستنتاجات

إن المسار الاقتصادي والسياسي للفلبين فيما يتعلق بنمو معدل الناتج المحلي، مقابل الانفتاح على المساحة الدولية في عقد شراكات مع الولايات المتحدة الأميركية، وعلى مستوى الحد من أسلحة الدمار الشمال ضمن إطار التعاون مع كورية الجنوبية والتوسع في مجالات الطاقة، حيث تعتزم البدء بتشغيل 3 محطات لاستيراد الغاز المسال مطلع العام المقبل، إضافة إلى تماسكها الاجتماعي الداخلي، ولأهميتها الجيوسياسية والجيوبوليتيكية، تدفع كلها بأن تكون دولة صاعدة تمثل مركزا للاستقطاب التجاري والاستراتيجي العالمي.

وهو ما يدفع الحزب “الشيوعي” الصيني إلى أن يضع الفلبين على رأس أجنداته التوسعية بمحاولة لقطع الطريق على مانيلا في الصعود اقتصاديا من خلال مضايقتها في مياه البحر الجنوبي، بغية عدم التعرض لأي منافسة يمكن أن تعكس نموذجا متقدما في المنطقة يمكن أن يعزز الشراكة مع دول مثل تايوان وكوريا الجنوبية ما يخلق تكتلا اقتصاديا واستراتيجيا يشكل تهديدا لمصالح بكين، فضلا عن استباق أي تعميق للعلاقات الغربية مع الفلبين التي تعتقد الصين أنها ستمثل تهديدا لأمنها القومي، وقد يضعف فرصها بالانقضاض على تايوان.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.