في نيسان/أبريل 2020، ومع دخول الاقتصاد العالمي في حالة السقوط الحر، ازدادت بشكل كبير مخاطر تخلف البلدان النامية عن سداد ديونها، وسارع قادة “مجموعة العشرين”، وهي مجموعة من أكبر الاقتصادات في العالم، إلى تنفيذ مبادرة من شأنها تعليق مدفوعات خدمة الديون للقروض الحكومية لـ 73 دولة فقيرة.

هذا الدعم أتاح فرصة للبلدان الفقيرة للتنفس خلال فترة الجائحة. وانتهت هذه المبادرة في كانون الأول/ديسمبر 2021 ليخلفها برنامج يسمى “الإطار المشترك”، والذي يجمع حكومات “مجموعة العشرين” مع 22 عضوا من “نادي باريس”، وهي مجموعة غير رسمية من الدول الدائنة الثرية التي تأسست في عام 1956 للعمل بشكل جماعي بشأن طلبات تخفيف عبء الديون. ويمكن لبرنامج “الإطار المشترك” هذا أن يجمع الدائنين من القطاع الخاص مع حكومات “مجموعة العشرين” و”نادي باريس” للمساعدة بشكل مشترك في إدارة ديون تلك الدول الفقيرة البالغ عددها 73. ومع ذلك، فإن هذه العملية الجريئة والتي طال انتظارها تتأرجح على شفا الانهيار.

إذا فشل برنامج الإطار المشترك، فإن اللوم سيقع على الجغرافيا السياسية، حيث وجدت الصين والولايات المتحدة نفسيهما على خلاف حول مفهوم وإدارة تخفيف الديون السيادية. فالمسؤولون الأميركيون يصفون الصين بشكل منتظم على أنها دائن لا يرحم ومصدرا لـ “مصائد الديون” وأنها تشكل عقبة أمام الحلول الدائمة. وقال سفير الولايات المتحدة لدى سريلانكا مؤخرا: “لقد كانت الصين هي المفسد”، في إشارة إلى صراعات ديون تلك الدولة.

في المقابل، تحتاج بكين إلى قبول فكرة أن شطب الديون أمر حتمي، وإلى إقناع المتشككين داخل الحكومة الصينية و”الحزب الشيوعي” الصيني بالبقاء منخرطين في هذه العملية. فما يقارب من 60 بالمئة من البلدان المنخفضة الدخل معرضة الآن لخطر كبير من ضائقة الديون، أو أنها بالفعل في حالة ضائقة. وللتغلب على العاصفة القادمة، تحتاج كل من الصين والولايات المتحدة إلى التعاون على اعتبارهما القوى المالية البارزة في العالم.

لا تجعلهم يدفعون

اندلعت أزمة الديون النظامية الأخيرة عندما رفع بول فولكر، رئيس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك، أسعار الفائدة الأميركية بأكثر من 20 بالمئة بين عامي 1979 و1982. ولأن القروض كانت مسعرة بالدولار عموما بأسعار فائدة متغيرة، فقد ارتفعت تكاليف خدمة الديون في البلدان الفقيرة، بحيث لم يتبق سوى القليل للإنفاق الاجتماعي. “هل يجب أن نجوع أطفالنا لدفع ديوننا؟” سأل رئيس تنزانيا السابق جوليوس نيريري في عام 1986. وقد تعرضت الدول الفقيرة للدمار على مدى السنوات الخمس والعشرين التالية.

“نادي باريس” عالج أكثر من 300 طلب تخفيف عبء الديون. ووافق فولكر لاحقا على أنه لم يأخذ بعين الاعتبار الضرر الذي قد يسببه مثل هذا القرار في البلدان الفقيرة، معترفا بأن “إفريقيا لم تكن حتى على شاشة الرادار الخاصة به”، على سبيل المثال. وفي السنوات الأولى من هذا القرن، سعى “صندوق النقد الدولي” لوضع قواعد جديدة مقترحا آلية من شأنها أن تؤدي في الواقع إلى إنشاء محكمة إفلاس للدول ذات السيادة. واستخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد هذا البرنامج بحجة أنه يمكن العثور على حلول أفضل في السوق الحرة.

بعد تحرير الولايات المتحدة للوائح المصرفية وجشع المقرضين الذي أطلق شرارة الأزمة المالية العالمية لعام 2008، شعرت “مجموعة السبع” بأنها مضطرة لتوسيع الدائرة ودعوة “مجموعة العشرين” لتصبح المنتدى الرئيسي للتنسيق الاقتصادي العالمي. والصين وثماني دول أخرى، الذين لا يزال دخولهم منخفضة بما يكفي للتأهل للحصول على مساعدة البنك الدولي، لديهم رأي في وضع القواعد العالمية، بما في ذلك تخفيف الديون.

كذلك تعمل “مجموعة العشرين” بشكل وثيق مع “صندوق النقد الدولي”. ويعد الأخير الذي يضم 190 عضوا عالميا، لتحديد تحليلات القدرة على تحمل الديون، والتي تقيم قدرة البلد على السداد، ومدى الأهمية التي يجب أن تكون عليها إعادة هيكلة الديون. فهذه المؤسسات هي الفريق المناسب لإصلاح البنية الصعبة لتخفيف عبء الديون السيادية.

إن القواعد التي تدير توفير تخفيف عبء الديون السيادية غير رسمية بشكل مدهش ومصممة سياسيا وقد عفا عليها الزمن. وتاريخيا، تم وضعهم من قبل “مجموعة السبع” وقاموا بتنفيذه من قبل “نادي باريس” و”صندوق النقد الدولي”. وحدثت الإصلاحات بوتيرة بطيئة، فبين عامي 1956 و1988، عندما جاءت البلدان إلى “نادي باريس” للإعفاء من الديون الثنائية الرسمية، سمح لها بمزيد من الوقت لسداد ديونها، إلا أن القواعد الحالية لم تسمح بأي تخفيض للديون الإجمالية.

في العام 1988، وافقت مجموعة الدول السبع على السماح بإعادة الهيكلة بحيث يمكن تخفيض الديون بمقدار الثلث. وعندما ثبت أن ذلك غير كاف، كان على الحكومات والناشطين الأوروبيين التقدميين إقناع الولايات المتحدة، التي كانت دائما بوابة الإصلاح، لدعم مبادرة “الدول الفقيرة المثقلة بالديون” لعام 1996 والخطوات الأخرى التي سمحت في النهاية بالإلغاء الكامل لديون “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي” للبلدان المؤهلة.

هذه الجهود ألغت أكثر من 100 مليار دولار من الديون لـ 37 بلد من أفقر البلدان، وحررتهم من الاقتراض مرة أخرى. واندفع المقرضون الصينيون، وكذلك مستثمرو السندات الأميركية مثل “مورجان ستانلي”، إلى ما يسمى بالأسواق الحدودية. واليوم، في 73 دولة فقيرة مؤهلة للإعفاء من “الإطار المشترك” لـ “مجموعة العشرين”، يمتلك الدائنون الصينيون 21 بالمئة من الديون، وحكومات “نادي باريس” 11 بالمئة، و”البنك الدولي” وغيره من المقرضين متعددي الأطراف 41 بالمئة، وحملة السندات والمقرضون من القطاع الخاص 23 بالمئة.

الوطنيون والعالميون

الصين ليست كتلة موحدة، إنما هي نظام استبدادي مجزأ مع سياسات بيروقراطية وأصحاب مصلحة لهم مصالح متنافسة. وتقترب بكين من الإصلاحات الرئيسية بحذر، فما يبدو وكأنه تباطؤ صيني غير متعاون مع المسؤولين الأميركيين قد يعكس بدلا من ذلك ترددا ناجما عن المناقشات الداخلية والصراعات البيروقراطية والرد القوي من البنوك الصينية شبه المستقلة والمقاومة لقواعد “نادي باريس”.

على سبيل المثال، نظرت الصين بجدية في الانضمام إلى “نادي باريس” في عام 2016. ومع ذلك، على الرغم من أن المسؤولين الصينيين ذوي الميول العالمية أعربوا عن تقديرهم للفعالية الفنية للنادي، إلا أن القوميين الصينيين اعتبروا المجموعة منصة جيوسياسية تهيمن عليها الولايات المتحدة. كان لديهم وجهة نظر بأن الولايات المتحدة دفعت تاريخياً عشرات المليارات من الدولارات لإلغاء ديون “نادي باريس” لعملائها المفضلين، ومكافأت مصر في عام 1991 على دعمها في حرب الخليج الأولى والعراق الغني بالنفط في عام 2004. كما ساعدت الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع الصين، وجهود إدارته المتكررة في وصف الإقراض الصيني في الخارج بلا أساس على أنه “دبلوماسية فخ الديون”، في القضاء على أي احتمال لانضمام الصين إلى “نادي باريس”.

كان تألق مبادرة تخفيف أعباء الديون الأولية لـ “مجموعة العشرين” لعام 2020 هو أنها سمحت للإصلاحيين في بكين بإحضار حكومتهم إلى المنتدى، حيث سيكون للصين صوت مساو في صياغة قواعد جديدة لإدارة ضائقة الديون السيادية. وقال أحد المشاركين إن انضمام الصين كان “معجزة”. وكان على دعاة العولمة الصينيين إظهار أن الانضمام سيفيد الصين وكذلك الدول الفقيرة. كما كان عليهم أن يظهروا للمتشككين داخل الحكومة أن الدائنين الآخرين سيتقاسمون الأعباء المالية بشكل عادل وأن مشاركة الصين ستساعد في تصوير البلاد كقوة رئيسية مسؤولة.

الجهود الأولية لتخفيف عبء الديون فشلت في القيام بذلك. ففي نيسان/أبريل 2020، أوضح وزير المالية الصيني ليو كون مخاوف الصين، متذرعا بأن “مجموعة العشرين” تحتاج أيضا إلى إشراك الدائنين التجاريين ومتعددي الأطراف في مبادرة تخفيف عبء الديون، لأن هؤلاء المقرضين يمتلكون 68 بالمئة من الديون في 73 دولة من أقل البلدان نمواً.

التعاون لمساعدة البلدان المثقلة بالديون

مع تفشي الجائحة في أوائل نيسان/أبريل 2020، دعا قادة بارزون، مثل المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وأكينوومي أديسينا، رئيس “بنك التنمية” الإفريقي، الدائنين متعددي الأطراف مثل “البنك الدولي” إلى تعليق ديونهم. ونصح “معهد التمويل الدولي”، وهو مجموعة تجارية للبنوك التجارية ومقرها واشنطن، بأن إعادة هيكلة الديون، إذا لزم الأمر، تتبع عملية مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون لعام 1996، لتشمل جميع الدائنين، ومتعددي الأطراف والتجاريين والحكومات.

“بنك الصين للتصدير والاستيراد” شارك في جهود “مجموعة العشرين” في عام 2020 في دوره المزدوج بصفته الوكالة الرسمية لائتمان الصادرات ومزود المساعدات الأجنبية في الصين. وفي حزيران/يونيو 2020، دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ البنوك الصينية الأخرى إلى الانضمام طوعا إلى المبادرة كدائنين تجاريين. وساعد “بنك التنمية” الصيني و”البنك الصناعي والتجاري” الصيني دولا مثل أنغولا وزامبيا. ووفقا لبيانات “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي” الصادرة في عام 2022، علقت الحكومة الصينية والدائنون التجاريون 8.2 مليار دولار من ربيع عام 2020 حتى نهاية عام 2021. وقدم الدائنون الثنائيون الرسميون الآخرون 4.7 مليار دولار. وقدمت ثلاثة بنوك متعددة الأطراف، “البنك الإسلامي للتنمية” و”الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية”، و”بنك الاستثمار الأوروبي”، ما مجموعه 153 مليون دولار.

علاوة على ذلك، وعندما انتهت المبادرة الأولية لـ “مجموعة العشرين” في كانون الأول/ديسمبر 2021، ذكر ديفيد مالباس، مسؤول الخزانة الأميركية السابق الذي يترأس الآن “البنك الدولي”، أن الصين أصرت على تلقي مدفوعات كاملة من البلدان المقترضة طوال فترة الأزمة. والآن، حدد المسؤولون الأميركيون بكين باعتبارها العقبة الوحيدة أمام تخفيف الديون.

لقد امتدت المخاوف الصينية الآن إلى “إطار العمل المشترك”؛ لأنها تريد أن يكون التقاسم مشترك، حيث تبني مشاعرها على دراسة أجريت عام 2019 من قبل خبراء الديون السيادية، مثل ماتياس شليغل وكريستوف تريبش ومارك رايت، أن تقاسم الأعباء غير المتكافئ في نظام “نادي باريس” كان منتشرا، وأن متوسط خسارة الدائنين المتكبدة في إعادة هيكلة الديون السيادية أعلى بكثير بالنسبة للدائنين الرسميين منه للقطاع الخاص. كما أن مبدأ “نادي باريس” القائل بأن “الدائنين الرسميين يتحركون أولا لتقديم تخفيف عبء الديون، وأن يتبعه الدائنون من القطاع الخاص بمساعدة “مماثلة”، لا يعمل.

أربع دول إفريقية تقدمت الآن بطلبات للإغاثة من خلال “الإطار المشترك” تشاد وإثيوبيا وغانا وزامبيا. ولكن نسفت الحرب الأهلية طلب إثيوبيا مؤقتا، ولم يتقدم طلب غانا سوى منذ أسابيع قليلة. وتم إبرام صفقة لإعادة هيكلة ديون تشاد في أواخر العام الماضي بين البلاد والدائنين الرسميين، مثل الصين وفرنسا، والمقرضين من القطاع الخاص بما في ذلك شركة جلينكور، وهي شركة لتجارة السلع الأساسية مقرها سويسرا أسسها أميركي تمتلك حوالي ثلث ديون تشاد الخارجية.

في زامبيا، حيث يمتلك الدائنون الصينيون 31 بالمئة من الدين الخارجي، يتم بناء القواعد الجديدة للإطار المشترك ببطء وبشكل مؤلم. ووجد أن هناك 18 دائناً صينياً منفصلا قدموا قروضاً للبلاد. وواجهت زامبيا صمتا طويلا وغامضا من بكين، بينما احتشد المقرضون تدريجيا للموافقة على أن يمثلهم “اكزيما” بنك الصيني، وتقديم إعفاء مماثل. ومع ذلك، لا تزال هناك عقبات هائلة. ولم يتوقع بنك الصين “اكزيما” بنك، الذي يمتلك 3.5 مليار دولار من الديون الزامبية، ولا حاملي السندات، الذين يمتلكون 3.2 مليار دولار، الأخبار الواردة في تحليل “صندوق النقد الدولي”، أن الدين بحاجة إلى التخفيض بنسبة 50 بالمئة تقريبا.

إعفاء جيد

إن المخاطر الحقيقية تتمثل في أن بكين قد تتخلى عن هذه التجربة ما لم يتمكن الإصلاحيون الصينيون من إظهار معالجة مخاوف الصين.

في أية مفاوضات مطولة، من المفيد أن تبدأ بمكاسب صغيرة تبني حسن النية. وخلال الجائحة، قام “صندوق النقد الدولي” بتوسيع صندوق الائتمان الذي دفع 964 مليون دولار لخدمة ديون “صندوق النقد الدولي” لأفقر البلدان. وفشلت الصين في إقناع “البنك الدولي” بإنشاء صندوق مماثل للمساعدة في سداد ديون البنك الدولي.

من جانبها، تحتاج بكين إلى القيام بعمل أفضل لشرح مواقفها، واقتراح حلول ملموسة وواقعية، والتخفيف من حدة خطابها. فعندما حثت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين الصين على التحرك بشكل أسرع في زامبيا، ردت السفارة الصينية بشكل غير مفيد بأنه يجب على الولايات المتحدة أن “تتوقف عن تخريب” المحادثات والتركيز على “مشكلة الديون الكارثية” للولايات المتحدة.

كل رد فعل مبالغ فيه من هذا القبيل يعزز المخاوف بين البلدان الإفريقية التي، كما يقول المثل، سوف تداس عندما تتقاتل الفيلة، كما كان الحال خلال الحرب الباردة. وفي وقت لاحق من هذا الشهر في الهند، ستعقد “مجموعة العشرين” اجتماعا على طاولة مستديرة مع “صندوق النقد الدولي” والدائنين من القطاع الخاص والبنوك متعددة الأطراف وحفنة من المقترضين. وفرصة التعلم هذه هي خطوة حيوية في طريق الإصلاح الطويل. فلم يفت الأوان بعد على الولايات المتحدة والصين لقلب السيناريو.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.