العالم يعيش حاليا في زمن مليء بالتغيرات والتحولات السياسية والاقتصادية والجيوسياسية، وفي هذا السياق تظهر الأزمات كشاهدة على تلك التحولات المتسارعة. تبرز الآن أزمة معقّدة تختبئ وراءها تفاصيل غامضة، وتتصاعد التساؤلات حول مدى تأثير اندلاعها وتطورها على الساحة الدولية. إنها أزمة النيجر، لكنها ليست مجرد أزمة إقليمية بسيطة، بل هي مفتاح لفهم الدور المتزايد وراء الكواليس لمن تعتبران أنفسهما قوتين عالميتين، الصين وإيران.

الأحداث المتسارعة في النيجر تقف وراءها ألغاز محيرة، تتجاوز حدود الإقليم لتمتد وتكشف تداخلا معقّدا من المصالح والتحالفات الدولية. دور الصين وإيران في هذه الأزمة يظهر كأمر محيّر وملفت، مما يثير التساؤل، كيف تسعيان إلى استغلال هذه الأزمة لصالحهما، وكيف يمكن تفسير اختيار الصين وإيران لدعمهما للمجلس العسكري في النيجر، وما هي الدوافع وراء هذا الدعم.

يظل الغموض يلفّ دور الصين وإيران في هذه الأزمة، لكن هناك أمور واضحة؛ فالصين ليست مجرد مستثمر عادي في النيجر، بل هي الأكبر والأهم حاليا بنظر المجلس العسكري المنقلب على السلطة. ومع ذلك، إيران تعيش تحديا آخر يتجلى في سعيها لتعزيز نفوذها عبر استغلال العوامل الدينية والثقافية، خاصة من خلال توجيه الأنظار نحو التيار الشيعي.

ما هي الأوراق التي تلعبها الصين وإيران؟

يوم الخميس الفائت، أصدرت وزارة الخارجية الصينية دعوة لإيجاد حل سياسي للوضع الحالي في النيجر. وأكدت في بيانها أن الرئيس محمد بازوم يُعتبر صديقا للصين، معربة عن آمالها في ضمان سلامته الشخصية، وداعية الأطراف المعنية في النيجر إلى التعامل بشكل سلمي من خلال الحوار، وذلك بالاستناد إلى المصالح الجوهرية للدولة وشعبها.

البيان جاء كردّ فعل سريع على التهديد الصادر عن مجموعة “إيكواس” الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، حيث أشارت المجموعة إلى إمكانية التدخل العسكري لاستعادة الرئيس محمد بازوم للسلطة، ما لم يتراجع قادة الجيش عن تنفيذهم لعملية الانقلاب.

لكن في المقابل، تشير هذه الأحداث لإمكانية تحقيق الصين مكاسب مزدوجة، على المستويين الاقتصادي والسياسي. فإزاحة الستار عن الرئيس بازوم وتعزيز مكانة الصين في النيجر سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم ستمنحها فرصة لتعزيز نفوذها وتعكس تفوقها في هذه المنطقة الحيوية.

أهمية النيجر، الدولة الواقعة في غرب إفريقيا، تبرز كجزء من مشهد يعيش منافسة محمومة بين الصين وغيرها من الدول كإيران لاستغلال ثرواتها المعدنية. حيث تحظى الصين بوجود قوي في هذه البلاد، إذ تدير مجموعة مناجم مهمة لاستخراج الذهب والفضة واليورانيوم.

من منظور العلاقة بين السلطات الصينية والرئيس بازوم، كان هناك تطورا ملحوظا في حجم التبادل التجاري بينهما، حيث اتسعت رقعة التعاون خلال ولايته. فالصين نجحت في الحصول على حقوق تشغيل مناجم وإدارة موانئ، وهذا يعكس مستوى العلاقة الوثيقة بين الجانبين.

بالتالي، تثير التطورات الأخيرة في النيجر تساؤلات حول تأثيرها على مصالح الصين. ورغم ذلك، يمكن أن تكون هذه التحولات متسقة سياسيا مع مصلحة الصين. ويأتي هذا في سياق وجود عداء بين المجلس العسكري وفرنسا، وهذا يفتح أبواب الفرص لإعطاء الصين مساحة أكبر لتحقيق مكاسبها لا سيما وأن حجم تبادل بكين مع القارة السمراء بلغ 200 مليار دولار.

كيف تستفيد الصين من أزمة النيجر؟

خلال الفترة من عام 2008 إلى عام 2017، انخرطت شركة البترول الوطنية الصينية، التي تعود ملكيتها للدولة، في استثمارات مكثفة في حقل “أغاديم” الواقع في شرق النيجر. وبدأت بحفر 166 بئر استكشافيّة، وفي عام 2011، انطلقت عمليات الإنتاج لاستخراج النفط من هذا الحقل الحيوي.

في العام 2019، تم تدشين مشروع “أغاديم 2″، الذي يمتد على طول 2000 كيلومتر من خطوط الأنابيب، حيث ربط بين حقل “أغاديم” النفطي وميناء “سيمي” في دولة بنين. وتم تصميم هذا المشروع فقط لتوفير وسيلة فعّالة لبكين من أجل نقل النفط وتوزيعه. وكان من المقرر أن يكتمل المشروع في عام 2022، إلا أن انتشار جائحة “كوفيد-19” أثر على جدوله الزمني.

حتى الآن، تم إنجاز نحو 30 بالمئة من البنية التحتية للخط، ومن المتوقع أن يبدأ تشغيله بنهاية عام 2023. ولكن تحت بند ضمان سلامة ونجاح المشروع، نشرت بكين أكثر من 700 جندي لتأمين المنطقة المحيطة. وفي سياق متصل، أعلنت شركة “سينوباك” الصينية عن توقيع مذكرة تفاهم مع وزارة البترول في النيجر للاستفادة من إمكانيات الاستغلال في عدة مناطق نفطية بالدولة.

من جهة أخرى، تولي الصين اهتماما بالغا بالمعدن الاستراتيجي “اليورانيوم” المستخدم في الطاقة النووية. ففي عام 2007، نجحت الشركة النووية الوطنية الصينية “سي إن إن سي” في الحصول على حق الوصول إلى منجم لاستخراج اليورانيوم ويقع في منطقة أزيليك.

في أعقاب منتدى “الاستثمار الصيني-النيجري” الذي انعقد في شهر نيسان/أبريل الماضي، تم التوصل إلى اتفاقيات مهمة تشمل إقامة منطقة صناعية تضم مجموعة متنوعة من القطاعات، منها معالجة الأغذية الزراعية والتعدين والعقارات، تحت بند تشير له بكين دائما في اتفاقياتها المعقدة “تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين”.

من الملاحظ أن وصول زعيم جديد إلى السلطة، يتبع نهجا غير محوري غربيا، يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على الصين. إذ إن هذا الزعيم المستقبلي قد يسعى لتوطيد العلاقات مع الدول الشرقية، بما في ذلك إيران والصين. وفي هذا السياق، قد تشهد الاستثمارات الصينية في النيجر تزايدا، وخاصة في مجال استخراج وتعدين اليورانيوم الاستراتيجي.

إيران والجماعات المسلحة في النيجر

في الثالث من آب/أغسطس الفائت، ظهر قائد “فيلق القدس” الإيراني الجنرال إسماعيل قاآني على متن الرحلة رقم “إل إن 422” المتجهة من طرابلس إلى النيجر. وتمت إزالة معلومات الرحلة من أجهزة التتبع عبر الإنترنت. وهنا يظهر تساؤل حول سرّ الزيارة، ولماذا تم إزالة كل معلومات الرحلة من أجهزة التتبع عبر الإنترنت، فتلك الأسئلة تنمّ عن مدى التعقيد الذي يحيط بهذه الأزمة.

بحسب حديث الباحث والصحفي من النيجر، ياسين دان مقولي، لـ “الحل نت”، فإن أولى أهداف زيارة قاآني إلى المجلس العسكري المنقلب، هي الاتفاق والتفاهم حول الاستثمارات الإيرانية في البلاد، خصوصا الدينية والفكرية، حيث تدعم إيران مراكز الفكر الشيعية المنتشرة في العاصمة نيامي، ومرادي ورندر وطاوا وتيلابري وآغادس.

بعد وصول عدد الشيعة في النيجر إلى أكثر من مليون من عدد السكان البالغ 25 مليون، سعت طهران إلى تأسيس مدرسة علمية شيعية باسم مدرسة “الرسول الأکرم”، والتي تخرّج منها عشرات من الشباب، وقدمت لهم منحا دراسية في سوريا وإيران ولبنان.

من المرجّح بحسب دان مقولي، أن تسعى إيران إلى الاستفادة من الأزمة السياسية في النيجر لزيادة نفوذها في المنطقة؛ وذلك عبر توسيع علاقاتها مع الجماعات المسلحة، وتأسيس ميليشيا محلية على غرار الميليشيات التي أسّستها في سوريا واليمن ولبنان، من أجل تسهيل استثماراتها في اليورانيوم الذي يُعد السلعة التي تشخص أنظار طهران إليها.

الصين وإيران تلعبان على كل الحبال

يمكن تفسير دعم الصين وإيران للمجلس العسكري في النيجر بوجهتي نظر مختلفتين لكنهما أكثر خطرا طبقا لحديث دان مقولي. فمن جانب الصين، فإن الدوافع تتمحور حول الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والاستثمارات في النيجر، حيث تعتبر المجلس العسكري قوة سياسية تتعامل معها. ومن ناحية أخرى، فإن تدخل إيران مرتبطٌ بتعزيز نفوذها في المنطقة عبر دعم الشيعة، وهو جزء من استراتيجية أوسع لتوسيع نفوذها الإقليمي.

تعزيز نفوذ إيران عبر الشيعة مرتبط بالتطورات الحالية في النيجر، من خلال تقويض تأثير الدول والجماعات المعارضة لها، وإنشاء ميليشيات محلية مرتبطة بالمجلس العسكري. وهذا بدوره سيؤدي إلى زيادة الانقسامات الدينية والطائفية في المنطقة التي أغلب سكانها من المسلمين، مما سيؤثر على الديناميات الإقليمية ويزيد من التوترات، ودخول الجماعات المتطرفة كما حصل في مالي وبوركينا فاسو.

تطورات النيجر قد تؤثر على مصالح الصين الاقتصادية والسياسية بشكل مباشر، خاصة إذا تسببت في تعطيل أو تقليص استثماراتها وعمليات التعدين. وهذا ما يدفع الصين إلى تكييف سياستها وتحديد أولوياتها في المنطقة عبر دعم المجلس العسكري في مواجهة “إيكواس” بشكل غير علني كما فعلت مع روسيا في أوكرانيا.

علاوة على ذلك، فإن تصاعد العداء بين المجلس العسكري وفرنسا، يخدم سياسة الحزب “الشيوعي” الصيني، بتغييرات في التحالفات والسياسات الإقليمية. إذ سيزيد من تأثير الصين وإيران في المنطقة، وربما يؤدي إلى تحولات في السياسات الإقليمية والدولية المتعلقة بالنيجر، لا سيما وأن عدد الشركات الصينية التي تستثمر في إفريقيا أكثر من 3000 شركة.

زيارة قائد “فيلق القدس الإيراني” إلى النيجر من المؤكد بحسب دان مقولي، ستؤثر على العلاقات الإقليمية والدولية من خلال زيادة التوترات، وقد تزيد هذه الزيارة من التدخلات الإقليمية وتعقيد الأوضاع في المنطقة، لا سيما أن الدور الإيراني جاء عسكريا وليس سياسيا ودبلوماسيا.

تظل هذه الأحداث تتفاعل وتتطور، مما يجعل من الضروري تفحص كل زاوية وتقاطع، ومحاولة فهم ما يجري وراء الكواليس. إذ يظهر أن الصين وإيران فعلا “اللاعبان الخفيان” في هذه الأزمة، فإن لديهما دورا بارزا في تشكيل مجريات الأحداث، وقد تكون آثارها مدمرة على الساحة الدولية على غرار “فاغنر” الروسية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات