لبنان يعاني منذ العام 2019 من أزمة سياسة اقتصادية مركّبة حادة، أدت لتفاقم الأوضاع المعيشية إلى أسوأ مستوياتها في البلاد، غير أنه وسط هذا المشهد هناك أطراف سياسية عملت على تحويل هذه الأزمة التي ضربت كافة القطاعات لمكاسب حزبية، بخاصة “حزب الله” المتهم في استدامة الأزمة، بغية الاستمرار في جني الثمار، لاسيما فيما يتعلق بالقطاع المالي الذي يعاني من تحوّله إلى النظام النقدي.

فمذ ذلك الحين، أخذ القطاع المصرفي في لبنان يتداعى شيئا فشيء بالتوازي مع انهيار العملة المحلية، الأمر الذي أدى إلى إفراز نموذج اقتصادي جديد، يختلف تماما عنما قام عليه القطاع الاقتصادي اللبناني، الذي ارتكز منذ نشأة الدولة على متانة نظامه المصرفي وتمدده واسع الانتشار في الخارج، مشكلا رافدا أساسيا من الأموال الأجنبية.

الحالة التي أكدتها الأرقام، إذ تناقص حجم الودائع بالعملات الأجنبية في القطاع المصرفي اللبناني من 129 مليارا دولار في حزيران/يونيو 2019، إلى 124 مليار دولار في تشرين الأول/أكتوبر من نفس العام ليصل في آذار/مارس 2023 إلى 93.3 مليار دولار، أي بتراجع قيمته حوالي 34 مليار دولار، مسجلا تراجعا تاريخيا.

إنحسار القطاع المصرفي أمام شركات الصرافة

وضعٌ دفع إلى إغلاق نحو ربع فروع البنوك في البلاد، إذ أغلق قرابة 400 فرع على الأراضي اللبنانية وخارجها، وبات عدد فروع المصارف حالياً 902 منها 830 فرعاً تابعاً لـ 46 بنكا تجاريا لبنانيا وأجنبيا، وبحسب المعلومات فإن 32 فرعا إضافيا ستتعرض للإقفال خلال الأشهر المقبلة ضمن خطة تخفيف النفقات التي تعتمدها المصارف في هذه المرحلة، وفق إحصائية سابقة لـ “مصرف لبنان” المركزي.

لبنانيون يطالبون باسترجاع ودائعهم من أحد البنوك اللبنانية/ إنترنت + وكالات

وسط ذلك، وبينما يدعو “صندوق النقد” الدولي باستمرار إلى إعادة هيكلة القطاع المصرفي المؤلف من 61 مصرفا، إضافة إلى توزيع الخسائر المقدّرة بـ 69 مليار دولار بشكل عادل بين الدولة و”البنك المركزي” والمصارف والمودعين، في خطوة لإنقاذ الوضع الاقتصادي؛ تزدهر شركات تحويل الأموال ومكاتب الصرافة الأهلية التي افتتحت مئات الفروع في مختلف المناطق اللبنانية، الأمر الذي طرح تساؤلات عدة، عمن ورائها والغاية منها.

تلك الشركات استفادت في نشاطها، من إغلاق آلاف الحسابات المصرفية للمودعين خلال الأعوام الماضية، بحيث تفيد الأرقام بانخفاضها من 1.5 مليون حساب عام 2019 إلى نحو 700 ألف حساب بداية عام 2022، بمعنى أن أصحاب تلك الحسابات باتوا يعتمدون على هذه الشركات والمؤسسات الأهلية، كبديل للمصارف في معاملاتهم المالية، الأمر الذي شكّل وفرة مالية كبيرة لدى تلك الشركات.

هذا الوضع، عكس مدى انعدام الثقة بالجهاز المالي الحكومي الذي استثمرته الشركات المالية الخاصة، بما ساعد في انتشار “اقتصاد الكاش”، الذي تستفيد منه جهات فاعلة، من خلال الفوارق بين العملة المحلية والصعبة، وهو ما عكسه افتتاح مئات المكاتب المالية، حيث تشير الأرقام إلى ارتفاع عدد فروع إحدى الشركات العاملة في لبنان منذ نحو 20 عاما من 1200 فرع قبل الأزمة إلى 1300 تقريبا.

في حين برزت شركة مالية جديدة بدأت منذ ثلاثة أعوام وتجاوز عدد فروعها 500 فرع، مما أثار تساؤلات حول هويتها وأهدافها، لا سيما أنها لا تتقاضى عمولة للتحويلات في العملة اللبنانية، بالتالي أن شركات تحويل الأموال في لبنان البالغ عددها 14 شركة، شهدت خلال سنوات ما بعد الأزمة نموا أفقيا وعموديا، وقد تمثّل النمو الأفقي في زيادة عدد فروعها إلى أكثر من 2400 فرع.

إلى ذلك، شرح خبير الاقتصاد اللبناني، بلال علامة تداعيات انتشار الاقتصاد النقدي في لبنان، قائلا، إنه من أصعب الإجابات الممكن الجواب عليها فيما خصّ الوضع النقدي والمالي في لبنان، هي كيفية مواجهة وضبط توسع الاقتصاد النقدي، أي “اقتصاد الكاش”، وذلك في محاولة لإرجاعه إلى النظام المعتمد عالميا ألا وهو التعاطي عبر النظام المصرفي، وخاصة فيما يتعلق بحركة الأموال والسيولة.

علامة أضاف في حديث لموقع “الحل نت”، إلى أن الاقتصاد النقدي في لبنان جاء نتيجة للأزمة التي فرضت نفسها، فمع تفاقم الأزمة التي ضربت المصارف، أصبحت الحاجة إلى الاقتصاد النقدي ضرورة وملجأ للهروب من سطوة المصارف والتسلط على الودائع، وعلى هذا الأساس تنامى الاقتصاد النقدي إلى الحدود غير الطبيعية، والتي من الممكن تؤدي إلى التجهيل بالعمليات المالية، أي فقدان القدرة على التتبع المفترض أن يحصل لحركة الأموال وتبادلها بين مختلف الدول والحاسبات العالمية التبادلية.

الاقتصاد النقدي يهدد مستقبل لبنان

بالتالي إن تنامي الاقتصاد النقدي يحمل الكثير من المحاذير بالنسبة للواقع الذي يمثله الاقتصاد اللبناني، كما يؤكد خبير الاقتصاد اللبناني، بحيث أنه من الممكن أن نصل إلى مرحلة تصبح كل العمليات التي تُجرى مع الاقتصاد اللبناني هي عمليات مشبوهة تتضمن كل أنواع الموبقات المالية، منها غسيل الأموال والتحويلات المشبوهة، والتمويل غير السليم لمنظمات وأُطر وكيانات غير طبيعية.

مؤسسة القرض الحسن واحدة من عشرات المؤسسات المالية التابعة لـ “حزب الله”/ إنترنت + وكالات

في المحصلة، وفق علامة، يمكن أن يؤدي ذلك إلى وضع لبنان على لائحة الحظر بما يشمل كافة مصادر الأموال الموجودة في البلاد، وذلك يمثل خطرا كبيرا على ما تبقى من نظام المصارف المركزية، بمعنى أن كافة العمليات المالية الخاصة بلبنان ستخضع للتحقق بشكل معقّد، مما قد يستغرق شهورا حتى الانتهاء منها، بالتالي هذا سيدفع الدول لتجنب التعامل مع لبنان، ما يؤدي إلى عزله تماما.

علامة لفت في ختام حديثه، إلى أن لبنان بحاجة سريعة للتحرك للحد من الاقتصاد النقدي، من خلال عدة إجراءات تطلب قرارا سياسيا وعدة قوانين إصلاحية، من شأنها أن تعيد هيكلة النظام المصرفي وإعادة الثقة للمواطنين في العمليات المصرفية، وإلّا أمام لبنان خطر كبير، مشيرا إلى أنه في الوقت الراهن هناك عدد من الدول التي تهمس بإمكانية وضع لبنان على اللائحة الرمادية لعدم التزامه بالشروط الإصلاحية طيلة الفترة السابقة.

وفقا لذلك، فإن وضع دولة ما على “القائمة الرمادية” للدول الخاضعة لرقابة خاصة، من قبل “مجموعة العمل المالي”، قد يؤدي إلى تعطيل تدفقات رأس المال مع احتمال انسحاب البنوك من التعاملات مع العملاء الموجودين في البلدان عالية المخاطر لتقليل تكاليف الامتثال، ما يخاطر بإلحاق الضرر بسمعة البلد، وتعديلات التصنيف الائتماني وصعوبة الحصول على تمويل دولي وارتفاع تكاليف المعاملات.

الحديث عن الاحتمالية الكبيرة بإدراج لبنان على “القائمة الرمادية”، يتوافق مع نتيجة أظهرها تقييم أولي أجراه قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بـ “مجموعة العمل المالي”، -وهي هيئة معنية بمراقبة الجرائم المالية-، للاقتصاد اللبناني، إذ بيّنت نسخة التقرير الأولى، في أيار/مايو الماضي، النتيجة التراكمية لهذا التقييم، بأنها تضع لبنان فوق عتبة القائمة الرمادية بعلامة واحدة.

فقد جرى تصنيف لبنان على أنه ملتزم بالمعايير جزئيا في عدة فئات، منها إجراءات مكافحة غسل الأموال، والشفافية فيما يتعلق بالملكية الفعلية للشركات والمساعدة القانونية المتبادلة فيما يتعلق بتجميد الأصول ومصادرتها، ولذلك فإن مسودة التقرير الأولى منحت لبنان درجة يستحق معها إدراجه على القائمة الرمادية.

في خضم ذلك، وبين الحديث عن انتشار الاقتصاد النقدي، والمكاسب التي يمكن جنيها من خلاله، برزت الإشارة إلى “حزب الله” كطرف مستفيد ومستديم لهذه العمليات، بما فيها افتتاح شركات التحويل المالي الخاصة، حيث قال الباحث في الشأن اللبناني مكرم رباح، إن الاقتصاد النقدي يُعدّ تدميرا للنموذج اللبناني في العمل المصري وهو الذي أرسى لبنان في محيطه العربي لاسيما في تقديمه الخدمات المالية والخدمات بشكل عام.

رباح، أشار في حديث لموقع “الحل نت”، إلى أن العامل الأساسي الذي يدفع باستدامة اقتصاد النقد مقابل تدمير القطاع المصرفي في لبنان، هو “حزب الله”، لاستفادته من اللجوء إلى تحويل الاقتصاد اللبناني إلى نقدي من أجل الالتفاف على العقوبات الأميركية والعقوبات الخليجية، مما يسمح له كذلك بجني أموال طائلة كما حصل عبر إنشاء شركات كـ “شركة حسن مقلد” وحتى الاستفادة من المنصة المالية التابعة للمصرف اللبناني المركزي، بالتواطؤ مع حاكم المصرف السابق رياض سلامة.

دور المنصة بتنامي الاقتصاد النقدي

يشار إلى أن “المنصة” قد بدأ الإعداد لها عام 2020، وأطلق العمل بها في مايو 2021، بموجب تعميم أساسي عن مصرف لبنان يحمل الرقم 157، ألزم المصارف كافة التسجيل على المنصة، مُتيحا لها حرية التداول، بحيث تجري عمليات الصرافة لزبائنها وتسجلّها على المنصة وفق سعر الصرف المحدد من المصرف المركزي.

اتهامات لـ “حزب الله” بتعطيل القطاع المصرفي في لبنان/ إنترنت + وكالات

لكن عمليا عبر هذه المنصة أتاح “مصرف لبنان”، شراء الدولارات من المصارف بسعر أدنى من المعروض في “السوق الموازية”، وكان الهدف من ذلك التحكم في القفزات الكبيرة التي كان يسجلها سعر صرف الدولار مقابل انهيارات الليرة اللبنانية من جهة، وتأمين حد معين من الدعم للتجار والمستوردين والشركات الكبرى الذين كانوا يحصلون حاجاتهم من العملة الصعبة من السوق الموازية ما شكل زيادة كبيرة في الطلب على الدولار ورفع من سعر صرفه. ذلك الأمر استغلته شركات الصرافة، والي يسيطر على معظمها “حزب الله”.

لذلك، لا يكترث “حزب الله” للأزمة السياسية في البلاد، والتي يتطلب حلّها من أجل العمل على حلّ المشكلة الاقتصادية، كما يؤكد رباح، ويشير إلى أن، الحزب في آخر المطاف، لا يهتم سوى باستدامة قدراته العملانية واللوجستية، ومنها الحصول على أموال وتبييض الأموال، وذلك من خلال شبكته المالية الممتدة من شاطئ البحر المتوسط حتى أميركا اللاتينية.

إذ يعمل “حزب الله”، وفق الباحث في الشأن اللبناني، بتبييض الأموال عبر شبكات المخدرات والسلاح والرقيق الأبيض، وذلك من أجل الاستمرار بعمله العسكري، مبيّنا أن الحزب قد حول جميع البلدان التي يتمتع بنفوذ فيها مثل سوريا والعراق واليمن ولبنان إلى بلدان متهالكة تعاني من الأزمات، على الرغم من أنها في الأصل بلدان غنية ولا تعاني من أي مشكلات اقتصادية، بل مشكلتها الأساسية هي عدم قدرة الشعب على الوقوف بوجه السلاح المدعوم إيرانيا.

بناء على ذلك، فسّر رباح، وقوف “حزب الله” مع حلفائه من الطبقة السياسية بوجه الإصلاحات المالية المطلوبة والمفروضة من المجتمع الدولي وعلى رأسها شروط “البنك الدولي” و”صندوق النقد” الدولي، من أجل الاستمرار بعمليات الاقتصاد النقدي، إذ لا يريدون التّحول إلى نظام طبيعي، ذلك لأن هذا النظام يضر بمصالحهم الحزبية ويمنعهم كذلك من السيطرة على بيئتهم المباشرة، أي المكون الشيعي في لبنان.

ذلك كله يأتي بينما يشهد القطاع المصرفي اللبناني ثاني أسوأ أزمة حادة في تاريخه والتي بدأت منذ العام 2019، بعد تلك الأزمة الأولى المعروفة بـ “أزمة بنك إنترا” عام 1967، والتي رافقها إفلاس سبعة مصارف وتسريح لعدد من الموظفين.

على هذا الأساس، أقام “حزب الله” شبكة من مكاتب “الصيرفة” التي يديرها أشخاص من الطائفة الشيعية، مقربون منه ومن حركة “أمل” لتصبح شبكة “الصيرفة” الأكبر في لبنان، حيث يعمل الحليفان ضمن نوع من توزيع الأدوار، حيث يتحكم في الاقتصاد النقدي اللبناني حلفاء “حزب الله” المسيحيون بالتحويلات الخارجية والعملة الصعبة القادمة من الخارج، بينما يدير “حزب الله” وحركة “أمل” مكاتب “الصيرفة” في الداخل، بحسب دراسات نشرها “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات