مع كلّ تحوّل جديد في توازن القوى والعلاقات الدولية، تتصدر منطقة آسيا، هذا الجزء الحيوي من العالم الذي يشكل مصدرا دائما للاهتمام الدولي والتوترات الجيوسياسية، ومن الواضح أن هذه الفترة لا تختلف عن السابق فيما يتعلق بالتوترات والتحديات، ففي هذا السياق يعود التوتر إلى المنطقة مع تجديد العلاقة بين كوريا الشمالية وروسيا.

في العقود الثلاثة الماضية، شهدنا تراجعا في العلاقة بين موسكو وبيونغ يانغ، علاقةٌ كانت قوية في السابق ولم تتعافَ منها تماما حتى الآن، ولكن يبدو أن الرياح تهبّ في اتجاه مختلف الآن، لا سيما بعد القمة التي عُقدت هذا الأسبوع بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، فهل نشهد عودة التوتر إلى آسيا مع تجديد العلاقة بين كوريا الشمالية وروسيا، أم نحن أمام صداقة جديدة أم مصالح مؤقتة، وهل هناك إمكانية لإحياء تحالف “محور الشر” بين روسيا والصين وكوريا الشمالية.

العلاقة بين كوريا الشمالية وروسيا معقّدة بشكل فريد، إنها علاقة تسمح فيها روسيا للقراصنة الكوريين الشماليين بالعمل من داخل حدودها، حتى عندما يستهدف عملاء كوريا الشمالية الكيانات الروسية المهمة، فهذه هي نفس العلاقة التي ذهب المسؤولون الروس إلى حدّ تنفيذ تدابير محلية لدعم عقوبات الأمم المتحدة ضد بيونغ يانغ، مع توفير السبل لكوريا الشمالية للالتفاف على الإجراءات الاقتصادية العقابية التي تفرضها الأمم المتحدة.

ماذا تريد كوريا الشمالية من بوتين وروسيا؟

من الجدير بالذكر أن كيم جونغ أون، يمتلك الملايين من قذائف المدفعية التي يمكن أن تكون مفيدة لقوات فلاديمير بوتين في أوكرانيا، ولهذا بسط بوتين السجادة الحمراء لكيم، فقد استنفدت قذائف المدفعية لدى قوات “الكرملين”، ولكن ما الذي يتعين على روسيا أن تقدمه في المقابل.

زعيم كوريا الشمالية، قام بزيارة روسيا مرتين، الزيارة الأولى كانت في عام 2019، والثانية كانت في أيلول/سبتمبر الجاري، وليس سرّا أن كيم لديه ثلاثة مسارات لكسبها من أي صفقة مع روسيا، بداية من التكنولوجيا العسكرية والفضائية، والفوائد السياسية، ونهاية بالفوائد الاقتصادية عبر إمكانية زيادة عدد العمال الذين ترسلهم للعمل في روسيا، والذين يقومون بعد ذلك بجلب العملة الصعبة إلى وطنهم.

من المعلوم أن كوريا الشمالية فشلت في إطلاق قمرين صناعيين حتى الآن هذا العام، مما يعطي الانطباع بأنها بحاجة إلى بعض المساعدة، وبالطبع ما تريده كوريا الشمالية بالمقام الأول من موسكو هو إطلاق قمر صناعي للاستطلاع العسكري، فضلا عن أنها مهتمة بالتكنولوجيا النووية الروسية، لكن هناك شكوك في أن الروس سيمنحون الزائر المتشدد التكنولوجيا النووية الخاصة بهم.

بالإضافة إلى الحصول على أسرار عمليات الإطلاق الفضائية، فإن أي اتفاق مع بوتين من شأنه أن يخدم مصالح كيم سياسيا؛ لأن ذلك يجعله يبدو رجل دولة أمام جمهوره المحلي، ويعطي الانطباع بأنه يسيطر بشكل كامل على البلاد، وفي ذات الوقت يظهر لأعداء كوريا الشمالية أن لديها أصدقاء كبار، وبالتالي فإن كوريا الشمالية آمنة إلى حدّ ما ومرتاحة في ظل الوضع الجيوسياسي الحالي.

بوتين وكيم جونغ أون، يعتبران رؤساء لدول تمتلك قِوى نووية هائلة، ومع ذلك يواجهان العزلة السياسية لأسباب مختلفة، فبالنسبة لبوتين، تأتي العزلة السياسية بسبب سياسات روسيا الخارجية المثيرة للجدل، بما في ذلك الأزمة في أوكرانيا والتدخل بالانتخابات الأميركية، وهذه الأفعال أدت إلى فرض عقوبات دولية على روسيا، مما أدى إلى عزلتها سياسيا.

أما بالنسبة لكيم جونغ أون، يأتي العزل بسبب برنامج كوريا الشمالية للأسلحة النووية، وفي محاولة لكسر هذه العزلة، يبدو أن كلّا من بوتين وكيم يرغبان في استخدام هذه القمة للإظهار للرئيس الأميركي، أن بيونغ يانغ لديها شركاء بينما في الحقيقة أن هذه القمة ليست سوى مصالح مؤقتة.

إحياء تحالف “محور الشر”

حتى الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت العلاقة بين كوريا الشمالية وروسيا تتسم بالمعاملات الضيقة وسوء التواصل الدبلوماسي على الرغم من إرث العلاقات الوثيقة التي كانت قائمة بين كوريا الشمالية والاتحاد السوفيتي خلال السبعينيات، وفقا للكاتب والمحلل السياسي الروسي، أندريه مورتازين.

يمكن تلخيص العوامل التي أدت إلى تجديد العلاقة بين كوريا الشمالية وروسيا بعد تراجعها لثلاثة عقود، بحسب حديث مورتازين لـ”الحل نت”، بعد عزلة روسيا دوليا، وفرض عقوبات اقتصادية عليها، مما دفعها إلى البحث عن شركاء جدد يمكنها الاعتماد عليهم. وتسعى روسيا لكوريا الشمالية أيضا إلى استغلال عمالتها الرخيصة، وقدرتها على إنتاج سلع رخيصة، مما يمكنها من المنافسة في الأسواق العالمية.

كذلك تسعى كوريا الشمالية إلى تحقيق مكاسب سياسية من علاقتها مع روسيا، مثل الحصول على دعمها في الأمم المتحدة، وكسر عزلتها الدولية، حيث يقدر مورتازين تجديد العلاقة العسكرية بين كوريا الشمالية وروسيا من شأنه أن يعيد المشتريات المتبادلة من السلع العسكرية، بما في ذلك التكنولوجيات التي طالما رغب فيها الجيش الكوري الشمالي ولكنه ظل متعطشا لعقود من الزمن بسبب التزام الصين وروسيا بالعقوبات الدولية، وتشمل هذه عناصر مثل الطائرات المحدثة وأنظمة الأسلحة المتقدمة.

ما يروّج له إعلام البلدين بأنه صداقة جديدة في حين يرى آخرون أنها مصالح مؤقتة، بنظر المحلل الروسي، من الصعب القول بشكل قاطع ما إذا كانت العلاقة بين كوريا الشمالية وروسيا تدور في فلك هاتين الدائرتين، فهناك عوامل يمكن أن تشير إلى وجود صداقة جديدة، مثل زيارة كيم جونغ أون لروسيا مرتين في عامي 2019 و2023، وتوقيع البلدين على اتفاقيات تعاون اقتصادية وعسكرية.

مع ذلك، هناك أيضا عوامل يمكن أن تشير إلى أن العلاقة مبنية على المصالح المؤقتة، مثل حاجة روسيا إلى دعم كوريا الشمالية بالحرب في أوكرانيا، وحاجة كوريا الشمالية إلى الحصول على التكنولوجيا العسكرية الروسية، وبشكل عام يمكن القول إن العلاقة بين كوريا الشمالية وروسيا، هي مزيج من الصداقة والمصالح المؤقتة، فهناك عوامل يمكن أن تدفع البلدين إلى استمرار العلاقة على المدى الطويل، مثل المصالح الاقتصادية والسياسية المشتركة.

ففي حالة العقوبات الدولية، فإن التعاون بين البلدين قائم على مصالح اقتصادية بحتة، فروسيا تتطلع إلى شراء المنتجات الكورية الشمالية، بينما تتطلع كوريا الشمالية إلى الحصول على المساعدات الروسية في مجالات مثل التكنولوجيا العسكرية والطاقة، أما في حالة الحرب في أوكرانيا، فإن التعاون بين البلدين قائم على معارضتهما للغرب.

إلا أن هذه الزيارة يُنظر لها من باب إصرار كوريا الشمالية على الأهمية الجيوسياسية لتوثيق العلاقات بين الصين وكوريا الشمالية وروسيا، والتي أعلنت خلال استضافة كل من وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، وعضو اللجنة المركزية للحزب “الشيوعي” الصيني لي هونغ تشونغ، في أواخر تموز/يوليو الفائت.

فمنذ نهاية الحرب الباردة، كانت الصين هي الشريك الرئيسي لكوريا الشمالية، بينما كانت العلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية متوترة إلى حد ما، ومع ذلك شهدت السنوات الأخيرة تحسّنا في العلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية، مما أدى إلى التكهنات حول إمكانية إحياء تحالف “محور الشر” بين هذه الدول الثلاث.

هناك عدد من العوامل التي يمكن أن تدعم إحياء هذا التحالف، حيث تشترك الدول الثلاث في السعي إلى تقويض النظام العالمي الغربي، ومعارضة التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية، رغم تضارب مصالحها في بعض المجالات، مثل التجارة والاستثمارات.

أيضا تختلف العلاقات بين الدول الثلاث مع الولايات المتحدة، حيث تتمتع الصين بعلاقات تجارية قوية مع الولايات المتحدة، بينما تتمتع روسيا بعلاقات سياسية وعسكرية مع الولايات المتحدة، وهنا بشكل عام يمكن القول بحسب مورتازين إن هناك إمكانات محتملة لإحياء تحالف “محور الشر” بين روسيا والصين وكوريا الشمالية، ولكن من غير المرجح أن يحدث هذا التحالف في المستقبل القريب، حيث هناك عدد من العوامل التي يمكن أن تمنع حدوثه.

مليار دولار لمواجهة بوتين وكيم

الحكومة الأميركية اتخذت خطوة غير معتادة بتأكيد التكهنات بشأن عقد قمة بين كوريا الشمالية وروسيا على أمل أن يؤدي تسليط الضوء على الأمر إلى توليد ضغوط على الجانبين قد تؤدي إلى احتواء وردع التعاون بين كوريا الشمالية وروسيا، ويؤكد المسؤولون الأميركيون أن الجهود السابقة للقيام بذلك كانت بمثابة رادع فعّال، في حين يمكن لبقية العالم أن ينظر إلى اجتماع كيم وبوتين باعتباره قمة بين زعيمين وحيدين ومعزولين.

إلا أن التحالف بين الصين وكوريا الشمالية وروسيا يظل أقل تماسكا مما يشير إليه عمق التنسيق من قبل الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية في كامب ديفيد، ومع ذلك فإن ظهور تحالفات متعارضة في شمال شرق آسيا يؤدي إلى تعميق التوترات بين الكوريتين والتوترات الإقليمية في شمال شرق آسيا. 

إن تعزيز العلاقات بين كوريا الشمالية وروسيا يخفف جزئيا من العزلة السياسية لكوريا الشمالية، ويعزز الشرعية السياسية الداخلية لكيم جونغ أون، ويشجع كوريا الشمالية على مواصلة تطوير الصواريخ والأقمار الصناعية مع الإفلات من العقاب، حيث تشير الرمزية الكامنة وراء حضور كيم بقمة مع بوتين في عام 2023 إلى أنه يعتزم إدارة الدبلوماسية الكورية الشمالية في سياق جيوسياسي وتصعيد المواجهة، بدلا من مناخ الحد من التوتر الذي كان سائدا خلال قمته في عامي 2018 و2019 وإن كان بنفس الأهداف.

في هذا الصدد، يشير مورتازين إلى أن دور وموقف أميركا من التطورات الأخيرة في علاقات روسيا وكوريا الشمالية هو دور نشط ومعارض، فواشنطن تحاول منع أي تعاون عسكري بين روسيا وكوريا الشمالية، وتحذر من أن ذلك سيكون له عواقب وخيمة على الأمن الدولي. 

كما تحاول أميركا دعم حلفائها في آسيا وأوروبا لمواجهة التهديدات الناجمة عن هذا التحالف، وطبقا لما حصل عليه من معلومات وخص بها “الحل نت”، فإن إدارة بايدن تخطط لإجراء اجتماع مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأسبوع المقبل، وتقديم مساعدة عسكرية وإنسانية بقيمة مليار دولار لأوكرانيا، كما تسعى أمريكا لتعزيز التعاون مع كوريا الجنوبية واليابان في مجالات مثل الدفاع الصاروخي والتجارة والتنمية.

هذه التطورات ستؤثر سلبا على أوكرانيا والخلافات بين روسيا وأميركا، حيث ستزيد من حدّة الحرب في أوكرانيا وتزيد من صعوبة التوصل إلى تسوية سلمية، وإذا حصلت روسيا على ذخيرة جديدة من كوريا الشمالية، فإنها ستزيد من قدراتها العسكرية وتلحق المزيد من الضرر بالجانب الأوكراني. 

كما ستكون هناك أيضا مخاطر متزايدة للانتشار النووي في المنطقة، إذا حصلت كوريا الشمالية على تكنولوجيات جديدة من روسيا، وهنا من المرجح أن يزداد التوتر في آسيا نتيجة التصعيد الدبلوماسي بين روسيا وكوريا الشمالية، خاصة مع الصراع الدائر في أوكرانيا والتهديدات النووية من بيونغ يانغ.

أيضا قد يشعر حلفاء أميركا في المنطقة، مثل كوريا الجنوبية واليابان، بالقلق من التحالف بين روسيا وكوريا الشمالية وتأثيره على استقرارهم وأمنهم، وقد يثير هذا التطور أيضا ردود أفعال من دول أخرى مثل الصين وإيران وتركيا، التي لها مصالح متضاربة أو متشابهة مع روسيا أو كوريا الشمالية.

بناء على ذلك، يمكن اعتبار العلاقة بين كوريا الشمالية وروسيا مصالح مؤقتة وفق الظروف الراهنة، فعلى الرغم من التجديد في العلاقة، إلا أنها تستند بشكل أساسي إلى مصالح مؤقتة تشمل الأمور الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية التي تخدم مصالح كل طرف في الوقت الحالي، في حين أن إمكانية إحياء تحالف “محور الشر” بين روسيا والصين وكوريا الشمالية مستبعدة في الوقت الحالي نظرا لتضارب مصالحهما.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات