منذ أمس الخميس، شهدت الأرض العراقية سلسلة من الهجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة على أهداف أميركية، سواء في قواعدها العسكرية أو في سفارتها في بغداد، وقد تبنت هذه الهجمات فصائل عراقية موالية لإيران، تطالب بخروج القوات الأجنبية من العراق، وتدين دعم أميركا لإسرائيل في حربها على قطاع غزة.

ولكن هذه الهجمات لم تمر دون ردّ من جانب الولايات المتحدة، التي شنّت ضربات جوية على مواقع تابعة لهذه الفصائل في كل من العراق وسوريا، وقالت إن هذه الضربات هي رسالة ردعٍ لإيران، التي تستخدم حلفاءها في المنطقة كأذرعٍ لزعزعة استقرار المنطقة.

من المعلوم، أن العراق ما يزال يعاني من أثار حرب عام 2003، والذي أطاح بنظام صدام حسين، وأيضا تنظيم “داعش” والذي فتح الباب أمام تدخلات إيرانية وتركية وغيرها في شؤونه الداخلية، وفي ظل ضعف المؤسسات الوطنية، وانتشار الميليشيات المسلحة، والفساد المستشري، يجد الشعب العراقي نفسه على حافة هاوية جديدة، قد تجرّه إلى معركة لا ناقة له فيها ولا جمل.

وفي هذا السياق، يُطرح السؤال: هل العراق جاهز لتحمّل عواقب هذا التصعيد؟ وهل يمكنه أن يحافظ على سيادته ووحدته في ظل تنامي التوترات بين إيران وإسرائيل، والتي قد تتحول إلى حربٍ شاملة؟ وما هي المصالح والمخاطر التي تواجه العراق في هذا المشهد المعقّد؟

“انتهى الوقت”

خلال الساعات الماضية، تجددت الهجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة على أهداف أميركية في كل من العراق وسوريا، حيث أُعلن عن استهداف قاعدة “فكتوريا” قرب مطار بغداد، ومواقع في ريف دير الزور، وقالت السلطات العراقية إن صاروخي “كاتيوشا” على الأقل سقطا في محيط قاعدة “فكتوريا” قرب مجمع يضم قوات أميركية، وأضافت أنه لم يتبيّن ما إذا كان الهجوم قد خلّف ضحايا.

العميد. الجنرال كيفن جيه بيرجنر، المتحدث باسم القوة المتعددة الجنسيات في العراق يتحدث إلى وسائل الإعلام.

ومساء الخميس أيضا، سُمع دوي انفجارات داخل قاعدة “عين الأسد” الجوية التي تستضيف قوات أميركية وأخرى دولية وتقع بمحافظة الأنبار غربي العراق، وقال الجيش العراقي إنه أغلق المنطقة المحيطة بالقاعدة وبدأ عملية تمشيط، في حين نقلت وكالة “رويترز” عن مصدرَين أمنيَين أن القاعدة استُهدفت بطائرات مسيرة وصواريخ.

وبذلك تكون القوات الأميركية في العراق قد تعرّضت إجمالا إلى 4 هجمات خلال 24 ساعة، حيث وقع هجومان سابقان بطائرات مسيرة، الأربعاء، تسبب أحدهما بإصابات طفيفة لعدد من الجنود، فيما قالت مصادر محليّة، أمس الخميس، إن طائرات مسيّرة استهدفت مواقع أميركيّة في حقل “كونيكو” للغاز بريف دير الزور شرقي سوريا، وهو حقل يضم أحد أكبر القواعد العسكريّة الأميركيّة في المنطقة.

هذه الهجمات سبقها تصريح سابق، للمتحدث العسكري باسم كتائب “حزب الله” العراقي، جعفر الحسيني، والذي حمّل الأميركيين المسؤولية لما يحدث في غزة، ومن هذا المنطلق، بدأت الكتائب بتوجيه ضرباتها نحو القواعد الأميركية، كما أعلن رسميا عبر قناة “المنار” اللبنانية الممولة من “حزب الله” اللبناني، مشاركة التنظيم في معركة “طوفان الأقصى”، من خلال استهداف القواعد الأميركية في العراق بوتيرة متزايدة.

ليس ذلك فحسب، بل وصل الأمر لأن يكشف المتحدث الرسمي باسم فيلق “الوعد الصادق” العراقي، أبو الجعفر الموسوي، أن فصيله استهدف قاعدة “عين الأسد” في العراق، موضحا أن الهجوم تم باستخدام ثلاث طائرات مسيرة وكان ردّا أوليا على ما يحدث في غزة. في حين أشار الأمين العام للفيلق، محمد التميمي، إلى استعداد ما أسماهم “المقاومة العراقية” لاقتحام الحدود مع إسرائيل، لكنها تنتظر اللحظة المناسبة لبدء التصدي.

هجوم الميليشيات في العراق وسوريا التي يحركها قادة “الحرس الثوري” الإيراني، جاء بعد ساعات من بيان لسفارة إيران في سوريا على موقع “إكس” (تويتر سابقا) باللغة العبرية، وذكرت فيه “انتهى الوقت”، وهنا نعيد تكرار الأسئلة: هل العراق مستعدٌّ لهذه المعركة؟ وهل لديه القدرة على تحمّل تبعاتها؟ وهل الشعب العراقي يريد أن ينجر إلى صراع لا يستفيد منه في شيء؟

الحكومة لا تمتلك السيطرة

تحسّس الخطر بدا واضحا لدى الصف الأول من قادة الحكومة العراقية، فعلى هامش الاجتماع للجنة التنفيذية لمجلس وزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة “التعاون الإسلامي”، أمس الخميس، حذّر وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، من خطر توسع الحرب على أمن المنطقة برمّتها.

أعضاء من جماعة كتائب “حزب الله” الشيعية في العراق.

حتى النائب عامر الفايز، عضو لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي، ذهب بتأكيده بأن الفصائل المسلحة في العراق تعمل بشكل مستقل ولا تتبع سيطرة الحكومة، وأشار إلى أنه إذا قررت هذه الفصائل تصعيد عملياتها العسكرية في إطار معركة “طوفان الأقصى”، فإن الحكومة العراقية ستواجه تحديات كبيرة.

وأوضح الفايز أن الأحداث في غزة أسفرت عن سقوط الآلاف من الضحايا، وعلى الرغم من ذلك، تسعى الحكومة العراقية إلى الحفاظ على الاستقرار في البلاد، وأضاف أن الحكومة تدرك حاجة العراق إلى الاستقرار بعد سنوات من الحروب والصراعات ضد الإرهاب.

الفايز خلال حديثه أمس الخميس، لموقع “بغداد اليوم”، أعاد التأكيد على أن الفصائل المسلحة لا تتبع سيطرة الحكومة، وإذا قررت القيام بأي عمل فإنها ستتصرف دون الحاجة إلى موافقة الحكومة، في إشارة إلى تلقى أوامرها من خارج العراق، والجهات الممولة لها مثل النظام الإيراني، خصوصا أن الحكومة تدعم حق التظاهر والاحتجاج، ولكنها تعارض استهداف السفارات بصفة عامة.

هل العراق مستعدٌّ لهذه المعركة؟

من الطبيعي عند اتخاذ أمر حرب، هو التعريج على التكلفة الاقتصادية لهذه الحرب وأثرها على البلد، وهنا يبدو أن هذه الميليشيات التي لا تعبأ بالوضع العام من الانهيار الاقتصادي وتدهور العملة المحلية، ولم تأخذ هذه المعلومات بعين الاعتبار، كيف لا، وهي لا يشغل بالها سوى تنفيذ أجندات النظام الإيراني، وتلقي الأموال منه.

أعضاء من جماعة كتائب “حزب الله” في العراق يحملون أسلحتهم لدى وصول قافلتهم إلى منطقة الكرادة ببغداد.

يشهد الاقتصاد العراقي تحسّنا ملحوظا في عام 2023، حيث ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 9.5 بالمئة في الربع الأول من العام، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، ويرجع هذا الارتفاع إلى عدة عوامل، منها ارتفاع أسعار النفط، وزيادة الاستثمارات الأجنبية، وتحسين الظروف الأمنية.

ومع ذلك، لا يزال الاقتصاد العراقي يعاني من عدد من التحديات، منها الفساد، والبطالة، والفقر، حيث كشف ماهر جوهان، وكيل وزارة التخطيط العراقية، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء العراقية، أن نسبة البطالة في العراق تتراوح بين 13 و15 بالمئة أي ما يقارب 7 ملايين عاطل عن العمل، فيما تبلغ نسبة الفقر 22 بالمئة، أي ما يعادل نحو 10 ملايين نسمة، في بلد يربو عدد سكانه على 43 مليونا.

الميزانية العراقية ما تزال تعاني من التكلفة الباهظة بسبب الصراع مع تنظيم “داعش”، الذي استمر من عام 2014 إلى عام 2017، وبحسب تقرير صادر عن وزارة المالية العراقية، بلغت تكلفة الصراع 209 مليارات دولار، بما يعادل 42 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. 

وتشمل هذه التكلفة النفقات العسكرية، والبرامج الاجتماعية، وإعادة الإعمار، وقد ساهمت هذه التكلفة في زيادة العجز المالي في العراق، والذي بلغ 16.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022.

من ناحية اقتصادية، يقول مصدران حكوميان إن العجز في موازنة العراق لعام 2023 من المتوقع أن يبلغ 63 تريليون دينار أي 43 مليار دولار، حيث إن إجمالي الموازنة العامة يبلغ نحو 198.6 تريليون دينار (136 مليار دولار)، وحجم الإيرادات المتوقعة من صادرات النفط يبلغ نحو 64.7 تريليون دينار (44.4 مليار دولار)، بمعدل تصدير 3.25 مليون برميل يوميًا.

من ناحية أخرى، يقول الخبير الأمني عماد علو، إن تكلفة الصراع مع “داعش” مستمرة رغم إنهاء التنظيم مركزيا، وهذه التكلفة تزداد يوميا في ظل استمرار هجمات “داعش” على المدن والقرى العراقية، رغم تكثيف الجهود الأمنية لملاحقة خلايا التنظيم ومحاولة القضاء عليه نهائيا.

علو أوضح لـ”الحل نت”، أن الطبيعة السياسية والعسكرية للعراق تحول دون قدرته على تحمّل صراع بالوكالة على أراضيه، خصوصا أن العراق دولة هشة، تعاني من صراعات داخلية، وضعف مؤسساتها، ووجود فصائل مسلحة متطرفة.

كذلك، فإن المصالح الإقليمية المتضاربة تحكم دخوله في صراع مع أعتى الدول العالمية تسليحا وتطورا، فالعراق يقع في منطقة ملتهبة، حيث تتنافس القوى الإقليمية الكبرى، مثل إيران وإسرائيل وتركيا، على النفوذ والسيطرة، وهذا الصراع سيكون لهم بمثابة فريسة مقدمة على طبق من ذهب لاقتطاع جزء من أراضيه، كما كانوا يفعلون سابقا.

أذرع إيران المنبوذون

لم تكن تجربة الميليشيات الإيرانية في التعامل غير المتقن والتّخلي عنهم فريدة من نوعها، فمن خلال تتبّع الأحداث في العراق وسوريا سابقا وغزة حاليا، نجد أن النظام الإيراني كان مهملا بعدّة طرق ويتخذ اللامبالاة في تعامله مع أذرعه في هذه الدول، مما عرّض للخطر أولئك الذين يخاطرون بحياتهم لمساعدة هذا النظام.

العراق حرب إيران غزة
متطوعون عراقيون في ميليشيات تمولها إيران.

دائما ما كانت إيران تتفاخر بتشكيلها لقوة عسكرية في هذه الدول، وتسعى لتنفيذ أجندتها من خلالهم، وتوجيههم لاستهداف البعثات الأجنبية سواء العسكرية أو الدبلوماسية، ولكن عندما يصدر الرّد من هذه الدول، يحدث صمت كبير من النظام الإيراني، وكأنه يلفت إلى أنه “لن يتحرك من أجل مرتزقة”، فهم بالنسبة له أدوات يعملون لديه من أجل الأموال.

تضخمت الميليشيات الموالية لإيران في العراق – باستثناء منظمة بدر – من ما لا يقل عن 4000 فرد في عام 2010 إلى أكثر من 60 ألف في عام 2014 عندما استفادت من التمويل الحكومي من خلال قوات “الحشد الشعبي” التي تم جمعها لمحاربة تنظيم “داعش”. 

إلا أن المجموعات الصغيرة من الميليشيات المؤيدة لإيران والأقرب إلى “الحرس الثوري”الإيراني، اعتمدت سلوكيات بعد أن رأت من النظام الإيراني تجاهلا خصوصا فيما يُعتبر الرّد على استهدافها سواء من أميركا أو إسرائيل، وبات الفساد لصنع الأموال أولوية بالنسبة لها، عبر السيطرة على الحدود العراقية السورية، وانتهاك حقوق الإنسان، وتطوير قواعد حصرية خارج سيطرة الدولة العراقية.

لقد صوّر النظام الإيراني نفسه تاريخيا على أنه بطل القضية الفلسطينية، وأعادت وسائل الإعلام الإيرانية مراراً وتكراراً تداول تصريحات القادة الفلسطينيين بأن إيران هي “الداعم الأكبر” لفلسطين، ووصف كبار المسؤولين الإيرانيين، بمن فيهم المرشد الأعلى علي خامنئي، تحرير فلسطين بأنه أحد أهم القضايا التي تواجه العالم الإسلامي، إلا أن كل هذا لا يعدو كونه تصريحات خُلّبية، واستعراض صوري للعضلات مع الحرص دون الخوض في نزال.

هنا تظهر النتيجة بشكل واضح، فمثلما تركت إيران “حماس” وحدها أمام الجيش الإسرائيلي منذ بدء عمليتها في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، والتي تكبّدت فيها خسائر كبيرة سواء على الصعيد الاقتصادي أو البشري، فإن مصير الميليشيات العراقية، التي تريد فتح جبهة مع أميركا والدول الأجنبية المتواجدة في العراق، سيكون ذات الموقف، ولهم في “حزب الله” خير مثال، الذي فضل الظفر بالسيطرة على لبنان سياسيا واقتصاديا، بدلا من خوض حرب لن يجني منها سوى الشعر والتصفيق والتصفير.

0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات حول دولي

جديداستمع تسجيلات سابقة