بعد فرض نفوذها في إفريقيا الوسطى ومالي مؤخرا، تتجه الأنظار إلى ما تم اعتباره من تمدد روسي جديد في الدولة الفقيرة بوركينافاسو، ما يضع احتمالية احتدام التدافع الدولي في القارة الإفريقية، لاسيما وأن بوركينافاسو تُعد منطقة نفوذ فرنسي.

حيث شهدت المستعمرة الفرنسية السابقة بوركينافاسو، انقلابا أطاح برئيس المجلس العسكري الحاكم كولونيل داميبا، الذي كان قد وصل إلى السلطة بعد الإطاحة بالرئيس السابق روش مارك كريستيان كابوري، في كانون الثاني/يناير الماضي، وهو ما رحّبت به روسيا، كما تم اعتباره تكرارا لما حدث في مالي.

ذلك بعد ما أعلنت مجموعة من ضباط الجيش في الدولة الواقعة في غرب القارة الإفريقية، الجمعة 30 سبتمبر/أيلول الماضي، عبر التلفزيون الرسمي، إقالة اللفتنانت كولونيل داميبا، رئيس المجلس العسكري الحاكم، وحل الحكومة والمجلس التشريعي ووقف العمل بالدستور، وحظر التجول وغلق الحدود.

وبعد ما كان داميبا، قد قام بانقلاب سابق، أطاح خلاله بالرئيس الأسبق كابوري، على خلفية فشله في احتواء عنف المتطرفين في البلاد، ليفقد الجيش البوركيني السيطرة على نحو 40 بالمئة من أراضي الدولة، وهو تقريبا نفس سيناريو ما حدث في مالي، المستعمرة الفرنسية السابقة أيضا، أو ما يُعرف بأنه “انقلاب على الانقلاب“، بحسب وصف الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه، وفقا لموقع “عربي بوست“.

تلك المقاربة جاءت بعد ما كانت مالي، قد شهدت في أغسطس/آب 2020، انقلابا أطاح خلاله العسكريون بالرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا، ليتم تنصيب مجلس انتقالي يدير البلاد وصولا إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية كانت مقررة في 2022، لكن في مايو/أيار 2021، قام الكولونيل آسيمي غويتا، الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس الانتقالي، باعتقال الرئيس باه نداو، ورئيس الوزراء مختار وان، وتم احتجازهما في قاعدة عسكرية، ليمسك بعد ذلك بمقاليد الأمور في البلاد.

وعلى الرغم من عدم صدور أي بيان من قِبل داميبا، مباشرة يتحدث عن استقالته، لكن زعماء دينيين ومجتمعيين قالوا، أن داميبا نفسه قدم استقالته “من أجل تجنب المواجهات ذات العواقب البشرية والمادية الخطيرة“، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطاني “بي بي سي“.

تقرأ/ي أيضا: تفجر الأوضاع في اليمن بعد هدنة نصف سنوية.. ما التبعات؟

نفوذ روسي في بوركينا فاسو على غرار مالي

موقف اللفتنانت كولونيل داميبا، صدر يوم الأحد الماضي، وبعد يومين من التوتر تخلله خروج مظاهرات مناهضة لفرنسا، يبدو أن الأمور في طريقها إلى الاستقرار لصالح قادة الانقلاب الجديد بزعامة الضابط الشاب تراوري.

وبحسب تقارير، فأن داميبا وضع 7 شروط للتنحي، بما في ذلك ضمان أمنه، والاتفاق على مواصلة جهود المصالحة الوطنية والاحترام المستمر لضمان العودة إلى الحكم المدني في غضون عامين، في حين أن الانقلاب الأخير هو التاسع الذي تشهده بوركينافاسو منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1960.

داميبا، كان يرفض إقالته من قبل تراوري، لكن خروج مظاهرات مؤيدة لقائد الانقلاب الجديد البالغ من العمر 34 عاما، دفعت نحو استقالته بعد أن تدخلت وساطة بين المعسكرين تولّاها مسؤولون دينيون ومحليون، ليقترح داميبا، بنفسه أن يقدم استقالته لتجنب مواجهات ذات تداعيات إنسانية ومادية خطرة، على ما ذكر بيان أصدره الوسطاء الذين يتمتعون بنفوذ واسع في بوركينا فاسو، بحسب موقع “فرانس 24”.

في مقابل ذلك، أصدر العسكريون الموالون لتراوري، بيانا قالوا فيه إن الأخير “كلف بتصريف الأعمال إلى أن يؤدي اليمين رئيس تختاره القوى الحية للأمة“، من دون تحديد أي موعد لذلك، وفي خطاب ألقاه أمام الأمناء العامين في حوالي 30 وزارة، اعتذر تراوري عن العسكر الذين “أثاروا اضطرابا في واغادوغو” في الساعات الأخيرة، قائلا: “لقد حدث ذلك لأن بعض الأمور لا تسير على نحو جيد، ويتعين التحرك بسرعة لتغيير ذلك لأن البلد بأكمله في حالة طوارئ“.

وكان متظاهرون مؤيدون للانقلاب الجديد تجمعوا الأحد الماضي، أمام السفارة الفرنسية في واغادوغو، حيث أضرموا النار في حواجز حماية وألقوا حجارة على داخل المبنى حيث كان جنود فرنسيون يتمركزون على سطحه، في حين تحدث القائد العسكري الجديد الذي يعتبر فرنسا حليفا للرجل الذي أطاح به، علنا عن استعداده للعمل مع شركاء جدد لمحاربة “الإرهابيين“، وهو فسره محللون بأنه تمهيد لتوظيف مرتزقة “فاغنر” الروس، على غرار ما حدث في مالي.

أحداث اعتُبرت مؤشرات على أن السيناريو المالي يتكرر في بوركينا فاسو، من انقلاب على الانقلاب، إلى ملامح تحول من الحضن الفرنسي إلى الروسي، بعد تصاعد هجمات العنف الأخيرة في البلاد، وفقا لتحليل لوكالة “الأناضول“، بيد أن الوضع الحالي يهدد بتخلي الانقلابينَ الجدد عن تسليم السلطة للمدنيين في مهلة أقصاها 1 يوليو/تموز 2024، كما التزم بذلك زعيم الانقلاب الأول المخلوع داميبا، أمام الاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا “إيكواس“.

تقرأ/ي أيضا: صراع المئة عام.. هل تنتهي التوترات الأرمينية الأذربيجانية؟

الانقلابيون الجدد وعلاقتهم بالروس

كما توقع “عربي بوست” في تقريره، أن يشكل الانقلابيون الجدد في بوركينا فاسو مع نظرائهم في غينيا ومالي، ما يشبه التحالف لمواجهة عقوبات متوقعة من “إيكواس” ضدهم، إذا لم يلتزموا بتسليم السلطة في الآجال المتفق عليها في العهد السابق.

ورجح أن، رئيس الحكومة المالية الانتقالية العقيد عبد الله مايغا، كان قد بحث مع رئيس المجلس العسكري في غينيا، العقيد مامادي دومبويا، خلال زيارته إلى العاصمة الغينية كوناكري، في 30 سبتمبر/أيلول المنصرم، نيابة عن العقيد عاصيمي غويتا، رئيس المجلس العسكري، وبعد 10 أيام من زيارة العقيد دومبويا، العاصمة المالية باماكو، الضغوطات التي تمارسها “إيكواس” ضدهما لتسليم السلطة في آجال لا تتجاوز العامين، بينما يرغب الجانبين في إطالة فترة حكمهما أطول من ذلك.

ويتقاسم الانقلابيون ذات المبررات، إذ أن داميبا عندما أطاح بالرئيس روش مارك كريستيان كابوري، في يناير/كانون الثاني الماضي، برر انقلابه بعدم تمكن الأخير من مواجهة الجماعات الإرهابية طيلة 7 سنوات من حكمه، لكن وبعد نحو 9 أشهر من تسلمه الحكم تدهور الوضع الأمني في بوركينا فاسو، أكثر من أي وقت مضى من عهد كابوري.

ذلك بعد تمدد الجماعات الإرهابية في نحو 40 بالمئة، من مساحة البلاد، حيث تعرضت وحدات الجيش خلال الأشهر الأخيرة لعدة هجمات خلّفت خسائر فادحة في الأرواح، كما تسببت بإحباط معنويات جنوده والضباط الميدانيين من صغار الرّتب، وشحنت السخط ضد قيادة المجلس العسكري، وتحولت بوركينا فاسو، إلى مركز ثقل للجماعات الإرهابية بعد ما كانت مالي تمثل ذلك في الساحل، إذ باتت بوركينا فاسو تسجل أكبر عدد من القتلى الذين سقطوا على يد الجماعات المسلحة في المنطقة خلال 2021.

وهذه السنة الثانية التي تحتل فيها بوركينا فاسو، المرتبة الأولى من حيث عدد القتلى في الساحل، خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، بحسب موقع “موند أفريك” الفرنسي، ففي شهر أبريل/نيسان الماضي وحده، قُتل ما لا يقل عن 240 شخصا، بينهم 108 ضد مدنيين، وأعنف هذه العمليات الإرهابية، التي عجّلت بوقوع الانقلاب على يد ضابط مغمور يدعى إبراهيم تراوري، مقتل 11 عنصرا من الدرك، في هجوم لمسلحين على بلدة سيتنغا شرقا، في يونيو/حزيران الماضي.

ولم يقتصر الأمر على هذه الخسائر في صفوف الدرك، إذ إن المسلحين عاودوا الهجوم على البلدة بعد يومين من الهجوم الأول عقِب انسحاب الجنود، ووقعت مجزرة راح ضحيتها 79 مدنيا، بحسب جهات رسمية، و116 شخصا بينهم أطفال ونساء، بحسب ناشطين إعلاميين، ونزح من البلدة أكثر من 30 ألف شخص، كما كانت أكبر مجزرة تسجل في عهد داميبا، الذي أعلن الحداد الوطني لثلاثة أيام، وتزايد الغضب بين فئات من الجيش وحتى الشعب، لعدم وفائه بتعهداته في مواجهة الإرهابيين.

عوامل تعزيز النفوذ الروسي

أحداث دفعت إلى تزايد السخط في صفوف الجيش، خاصة من هم في الخطوط الأمامية، من الإخفاقات المتواصلة في مواجهة الجماعات المسلحة بسبب قلة الدعم، وكان داميبا يدرك أن هذا الغضب من الممكن أن يتحول إلى انقلاب لذلك أقال وزير دفاعه في 13 سبتمبر/أيلول أي قبل أسبوعين من الانقلاب، واختار تولي مهامه بنفسه.

لكن الانقلاب لم يأت من كبار الضباط، بل من ضابط شاب برتبة نقيب هو تراوري، التحق بالجيش لأول مرة في 2010، وشارك في الانقلاب الذي أطاح بكابوري، وعيّنه داميبا قائد فيلق فوج مدفعية كايا شمالا، الذي عانى من هجمات الإرهابيين، وتخلى رفاق داميبا، الذين ساعدوه في الإطاحة بنظام كابوري عنه، لاتهامه بعدم حشد القوات والإمكانيات الكافية لمواجهة الجماعات المسلحة، بل وانقلبوا عليه للأسباب نفسها بعد أن شعروا بالخيانة.

مع ذلك يقول “عربي بوست“، إنه لم يتضح بعد أي دور لروسيا في دعم الانقلاب الجديد، لكن الانقلابيين الجدد اتهموا العقيد داميبا، بعد يوم من الانقلاب بـ “اللجوء إلى قاعدة فرنسية في كامبواسين“، الواقعة على بعد 30 كلم شمال غرب واغادوغو، وتضم قوات سابر الفرنسية الخاصة، لـ “لتخطيط لهجوم مضاد“، وهو ما نفته الخارجية الفرنسية.

واعتبر الانقلابيون الجدد أن خطوة الرئيس المخلوع والنوايا الفرنسية، جاءت على خلفية “رغبتهم القوية في التوجه نحو شركاء آخرين، مستعدين لمساعدتهم في مكافحة الإرهاب“، لكن التقارير تشير إلى أن “الشركاء الآخرون” لا يمكن أن يكونوا سوى الروس، وذراعهم الأمنية شركة “فاغنر“، المستعدين لتزويد جيوش الساحل الإفريقي بالأسلحة لمواجهة الجماعات المسلحة، مقابل تقويض النفوذ الفرنسي بالمنطقة.

بخاصة وأن الصراع الروسي الفرنسي بمنطقة الساحل مستعر، ومالي تمثل إحدى أبرز تجلياته، لاسيما بعد فشل عملية برخان العسكرية، التي أطلقتها باريس في 2014، وانسحابها من مالي، منتصف أغسطس/آب الماضي، بدأ يتراجع النفوذ الفرنسي في المنطقة.

فيما يشير تقرير الـ “عربي بوست“، إلى أن داميبا، كان يعرف على أنه أحد رجال فرنسا في المنطقة، وعلى عكس الانقلابيين في مالي وغينيا، كما لم تفرض “إيكواس” أية عقوبات على المجلس العسكري في بوركينا فاسو، ما يعكس كرما غريبا من لدن منظمة إقليمية تملك باريس نفوذا قويا في العديد من أعضائها.

تقرأ/ي أيضا: ما سيناريو انتهاء الغزو الروسي لأوكرانيا؟

روسيا واستراتيجية النفوذ في إفريقيا

بالمقابل، لا تحظى باريس بقبول من البوركينابيين، الذين تظاهر المئات منهم قبل ساعات من الانقلاب للمطالبة برحيل القوات الفرنسية من بلادهم، وإقامة تعاون عسكري مع روسيا، بحسب إعلام فرنسي.

وبعد الإطاحة بداميبا، سيتيح ذلك لروسيا التوغل أكثر في بوركينا فاسو، على غرار ما فعلت في مالي، من خلال إرسال مدربينَ وعناصر من “فاغنر” إليها، وتزويدها بأسلحة خفيفة وثقيلة، بما فيها الطيران الحربي (المستعمل)، مقابل الاستفادة من حقوق استغلال مناجمها المعدنية، خاصة أنها خامس أكبر منتج للذهب في إفريقيا، ناهيك عن الفوسفات والمنغنيز والزنك.

من جهته موقع “سكاي نيوز عربية” نقل عن الباحث البوركيني عثمان ويدراوغو، قوله إن “قادة الانقلاب مدعومين بشريحة من السكان مساندة لهم، وهذه الشريحة هي التي خرجت بالآلاف في أول يوم للانقلاب وكانت ترفع أعلام روسيا، وعاودت الخروج مرة أخرى، في إشارة إلى الاستياء الشعبي الموجود في البلاد من النفوذ الفرنسي“.

وبدأ النفوذ الروسي في إفريقيا عندما لجأ رئيس إفريقيا الوسطى فوستان آرشانج تواديرا، في العام 2017، إلى موسكو من أجل تأمين الأسلحة والمدربين العسكريين لتعزيز جيش جمهورية إفريقيا الوسطى، وهو ما مهّد إلى نجاح مجموعة “فاغنر”، في العام 2020 في دعم بقاء تواديرا، في الحكم بعد محاولة تحالف متمرد الإطاحة بنظامه مما عزز فرصة النفوذ الروسي في إفريقيا الوسطى.

نجاح الاستراتيجية الروسية في إفريقيا الوسطى، فتح شهية موسكو على توسيع دائرة نفوذها، فتكررت التجربة في مالي، عقب انقلاب الكولونيل أسيمي غويتا، في 2020، من خلال دعم روسيا المجلس العسكري الحاكم في بماكو بالأسلحة، ووجود مرتزقة “فاغنر“، لتصبح بوركينا فاسو بانقلاب تراوري أقرب للخضوع للنفوذ الروسي.

تقرأ/ي أيضا: تصاعد التوترات العسكرية في مالي.. ما علاقة “فاغنر” الروسية؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.