من حين إلى آخر، تنتهج السياسيات الخارجية منحى يتوافق مع التحولات الإقليمية والدولية في العالم، وعلى هذا النحو أخذت السياسة الإماراتية أوجه عدة؛ منها التوجه نحو القارة الإفريقية مؤخرا، لتكون المحطة الأخيرة الخرطوم، التي فتحت أبوابها للاستثمارات الإمارتية، إذ أبرمت شركة “ياه كليك” الإماراتية لحلول البيانات التابعة لمجموعة “الياه سات” للاتصالات الفضائية الاثنين الفائت، اتفاقية شراكة إستراتيجية مع شركة “كنار للاتصالات المحدودة” في السودان بقيمة 15 مليون دولار لمدة ست سنوات بهدف توسيع نطاق حضورها في جميع أنحاء إفريقيا.
هذه الاتفاقية تتيح للشركة توسيع شبكة أعمالها وتعزيز حضورها في المنطقة وإيصال خدماتها إلى دول أكثر، في الوقت الذي تسعى فيه الإمارات عبر أحدث شراكة لها في أسواق الاتصالات لتطوير البنية التحتية الرقمية لتوسعة استثماراتها في القارة الإفريقية، خصوصا وأن هذه الصفقة تعتبر إضافة كبيرة لإيرادات المجموعة الإماراتية، التي بلغت نحو 2.1 مليار دولار في نهاية سبتمبر الماضي، ووصلت إلى 5.1 أضعاف الإيرادات السنوية بنهاية عام 2021.
بيد أن اللافت في التوجه الإماراتي نحو السودان في القطاع الرقمي، جاء بعد أسبوع من إبرام تركيا والسودان مذكرة تفاهم تهدف إلى التعاون في مجالي الزراعة والثروة الحيوانية، حيث تم توقيع المذكرة الجمعة الماضي في أنقرة، عن الجانب التركي نائب الرئيس فؤاد أوقطاي ووزير شؤون مجلس الوزراء السوداني حسين عثمان.
احتمالية صراع تركي إماراتي
المذكرة تهدف إلى التعاون وتحقيق المصالح المشتركة على مستوى الإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية وتطوير صناعة المعالجة والارتقاء بالتجارة بين البلدين، وذلك في الوقت الذي يُنظر إلى مستقبل السودان كأحد أهم ساحات الاستثمار الاقتصادي لاسيما في مجال الزراعة، وسط تقارير تحدثت عن مساعي تركية إلى منافسة غير معلنة لمشاريع خليجية، وأشارت إلى استعداد بعض دول الخليج لضخ استثمارات كبيرة في مجال الزراعة بالسودان، والاستفادة مما يمتلكه هذا البلد من أراض خصبة تتوفر لها بسهولة مياه نهر النيل وروافده، ووصفته دراسات عربية بأنه يمكن أن يصبح سلة غذاء العالم العربي.
اقرأ/ي أيضا: إريتريا وصراع النفوذ.. عمق استراتيجي على البحر الأحمر
رغم تقاطع مسارات الاستثمارات الإماراتية والتركية التي تأخذ كلا منها منحى منفصل عن الآخر، إلا أن تزامن توجه الدولتين إلى الخرطوم وسط مؤشرات عدة على أهمية السودان الاستراتيجية من حيث الموقع الجغرافي الواقع وسط “القرن الإفريقي” والقيمة الاقتصادية، أثار الشكوك حول هذه الصدفة، خصوصا وأن ما بين أبو ظبي وأنقرة شوط طويل من التدافعات في ساحات النفوذ الإقليمية والدولية، ما أعاد إلى الواجهة التكهنات حول إمكانية تفجّر الخلافات مجددا بين الجانبين بعد وقت قصير من التقارب الذي سبقته توترات كبيرة.
إذ تتنافس الإمارات وتركيا على النفوذ في المنطقة منذ اندلاع “الربيع العربي” قبل عقد من الزمن، ودفعتهما المنافسة إلى دعم أطراف مختلفة في الحرب الأهلية الليبية والمصرية وصولا إلى الاصطفافات المتناقضة في الأزمة العربية التي امتدت لثلاث أعوام بين السعودية والإمارات والبحرين من جانب وقطر من جانب آخر، وامتدت إلى نزاعات من شرق البحر المتوسط إلى الخليج، قبل أن تعود لتستقر في تشرين الثاني/نوفمبر العام الماضي.
العلاقات عادت للتّحسن مع زيارة قام بها ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى تركيا وهي الأولى لمسؤول إماراتي بهذا المستوى منذ 2012، وبينما تمر أنقرة في اضطرابات اقتصادية كبيرة ويسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تصفية الخلافات مع خصومه ضمن سياسة “صفر مشاكل” التي اتخذها في التقارب مع مصر والسعودية وسوريا أيضا، وهي دول جميعها كانت تُعد من أشد المتخاصمين مع سياسته الخارجية.
أنقرة وأبو ظبي والتدافع التكتيكي
بناء على ذلك، يبدو أن الساحة السودانية عادت لتمثّل اختبارا جديدا لعلاقات أنقرة وأبو ظبي، وإذا ما كان تدفق استثمارات الجانبين إلى الخرطوم سيحيي الخلاف مجددا، الأمر الذي ناقشه موقع “الحل نت” مع الخبير في السياسات العامة عقيل عباس، وقال إن الاستثمار الخليجي في السودان تاريخيا هو حاضر هناك، خصوصا على مستوى الاستثمارات السعودية والإماراتية وحتى الكويتية، وغالبا ما تكون استثمارات في القطاع الزراعي، لذلك تمثل السودان مصدرا للأمن الغذائي لدول الخليج، وهو الأمر الذي يستدعي نفوذا سياسيا ودعما من قبلها للخرطوم.
من جانب آخر، لفت عباس أن السودان تحديدا من جهة البحر تُعد أقرب إلى دول الخليج، وعلى العكس من تركيا التي من غير السهل عليها الوصول إلى السودان، والتي تمتلك زراعة داخلية نشطة، لذلك إن توجهها نحو السودان وفق هذا المشهد يدخل في إطار التنافس السياسي، كما أنه يأتي ضمن مواجهة إقليمية تسعى أنقرة من خلال الاستثمارات الاقتصادية التي تؤدي طرديا إلى فرض وجود سياسي، للحصول على تأثير في الخرطوم.
اقرأ/ي أيضا: الغزو الروسي لأوكرانيا.. نظرة في أهداف إيران الاستراتيجية
على الرغم من ذلك، يرى الخبير في السياسات العامة، أن العلاقات التركية الإماراتية ذاهبة باتجاه التهدئة، وهذه التهدئة ستتسع تدريجيا في المرحلة الحالية، حتى على مستوى الاتفاق بخصوص السودان ودفعها باتجاه تسوية الأوضاع داخليا، خصوصا أنها تعيش حالة من التوتر السياسي، وهو الوضع الذي على ما يبدو أن أصحاب القرار في السودان يشعرون بالأريحية حياله، مؤكدا أن على الرغم من التنافس الاقتصادي بين الدولتين في السودان، إلا أنه لن يقود إلى نقض الهدنة بينهما، حيث ستجري الأمور في سياق تقسيم المنطقة ضمن حسابات المصالح.
عباس علل ذلك، بالقول إن العلاقة بين تركيا والإمارات ليست علاقة عدائية، وإنما مواجهة تكتيكية تتغير مع تغير الظروف ولا ترتقي إلى مستوى المواجهة الاستراتيجية مثل شكل المواجهة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، أو العرب وإسرائيل، فهناك ميزان مصالح تمضي في إطاره، كما تحكمها التحولات الإقليمية والدولية.
في الإطار ذاته وعلى الجانب الآخر، يتحدث محللون عن إن الصفقة ستدعم أهداف الحكومة السودانية للتحول الرقمي وتوسع نطاق الاتصال العريض في بلد يضم أكثر من 40 مليون نسمة، بحيث من المرجح أن تسهم الشراكة في تعزيز مكانة “كنار” بين شركائها من مزودي الخدمة، وذلك من خلال تقديم مجموعة من الخدمات للعملاء في جميع أنحاء السودان.
مكاسب سودانية
الشركة السودانية “كنار” تسعى عبر الاتفاقية لتحسين خدمات الاتصال لدعم سلسلة من البرامج الحكومية الإلكترونية وتنشيط القطاعين المصرفي والخاص، بالإضافة إلى توفير خدمات إنترنت منخفضة التكلفة، إذ بموجب الاتفاقية حصلت “كنار” التي يملك بنك الخرطوم 92 بالمئة من أسهمها، على سعة كبيرة من أقمار “ياه كليك” الصناعية، وذلك بهدف توفير خدمات الإنترنت الفضائي السريع للمستهلكين والشركات في السودان.
يُشار إلى أن شركة “الياه سات” الإماراتية والتي تعد شريكا موثوقا لحلول وخدمات الاتصالات المتكاملة عبر الأقمار الاصطناعية، ومركزا متميزا للعملاء في القطاعات الحكومية والتجارية، حيث تغطي عملياتها وخدماتها أكثر من 150 دولة عبر خمس قارات، قد تأسست في الإمارات عام 2007 بهدف توفير اتصالات فضائية موثوقة وآمنة حول العالم، ولتلبية الطلب المتزايد على خدمات الاتصالات الفضائية عبر الأقمار الصناعية، ولدى هذه الشركة أسطول مكوّن من 5 أقمار اصطناعية، بالإضافة إلى قمر اصطناعي سادس قيد الإنشاء، ولديها بنية حديثة تشمل خدمات الاتصالات الفضائية الثابتة والمتنقلة.
بالعودة إلى الاستثمارات في السوق الرقمية بالسودان، فإلى جانب “كنار”، تتنافس في السوق ثلاث شركات أخرى مزودة لخدمات الاتصالات، هي “سوداني” و”زين” و”أم تي أن”، ويبلغ عدد المشتركين بها نحو 30 مليونا، وتستحوذ هذه الشركات على حصة كبيرة من حجم السيولة اليومية في السودان، لكن جزءا كبيرا من السيولة يستخدم في مضاربات سوق النقد الموازي وأسواق صادرات المحاصيل، بغية تأمين عملات صعبة لا يعود معظمها إلى النظام المالي للدولة.
بالمقابل، تحصل الخرطوم في المتوسط على قرابة 560 مليون دولار سنويا من ضريبة القيمة المضافة المفروضة على شركات الاتصالات، فضلا عن ضريبة الأرباح والعوائد، وطبقا لمعلومات موثقة، فإن حجم المال المتداول سنويا في قطاع الاتصالات بالسودان، يُقدر في المتوسط بأكثر من 1.8 مليار دولار، وهي حصيلة نشاطات اقتصادية لعدد من المؤسسات والشركات الخاصة التي تعمل في هذا القطاع.
- توحش “الحوثيين” يطال المنظمات الأممية.. نهب الموارد ونشر الرعب
- “الآن هم عراة، ليس لديهم القدرة على حماية أنفسهم”.. تفكيك “محور المقاومة”
- مرتبط بـ “حزب الله”.. “بارون المخدرات” اللبناني ينتقل إلى سوريا
- قصي خولي وديمة قندلفت في مسلسل تركي.. تفاصيل
- إسرائيل تعلن مقتل قياديين في إنتاج الصواريخ ومنظومة الاتصالات في “حزب الله”.. من هم؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.