العالم اليوم يمرّ بعدد من الأزمات، ولعل من أبرز هذه الأزمات تلك الحروب التي تدور في بعض الدول، مثل الحرب الأوكرانية وتداعياتها المستمرة حتى الآن، بالإضافة إلى الاضطرابات العالمية الأخرى التي تؤثر بشكل أو بآخر، على جميع دول العالم. لكن ثمة اليوم أزمة خطيرة تواجه العالم بأسره من بين تلك الأزمات العالمية هي أزمة التغير المناخي وانعكاساتها الخطيرة، وخاصة على المجال الاقتصادي. المجتمع الدولي يدرك مدى خطورة هذا الأمر، ولذلك تتخذ الدول إجراءات مختلفة لوقف أو تقليل مخاطر تغير المناخ، وإجراء العديد من المؤتمرات والمنتديات الدولية الدورية فيما يتعلق بتغيرات المناخ.

مما لا شك فيه أن العالم يعيش في لحظة حاسمة في تاريخ البشرية. إذ تكافح البلدان للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في مواجهة أزمة الطاقة العالمية، وتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، وعدم اليقين الاقتصادي المتزايد جرّاء التضخم والأزمات الاقتصادية الحادة لبعض البلدان. كما تُعد الأحداث المناخية القاسية في الولايات المتحدة الأميركية، وموجات الحرارة القاتلة في القارة الأوروبية، والحرائق الضخمة التي تواجه غابات العديد من الدول والفيضانات المدمرة في بعض الدول ومنها باكستان، والجفاف في العديد من البلدان في الشرق الأوسط وقارة إفريقيا، من بين أحدث أزمات المناخ التي تلوح في الأفق خلال السنوات القادمة.

إن تداعيات وتأثيرات تغير المناخ تُعدّ بعيدة المدى أكثر بكثير مما كان يُعتقد في الأصل، خاصة على المستوى الاقتصادي، حيث فرض تغير المناخ تكلفة باهظة على جميع اقتصادات العالم دون استثناء. وعلى مدى العقد الماضي تسببت الكوارث الطبيعية الناجمة بالدرجة الأولى عن التغير المناخي في خسارة نحو 0.3 بالمئة من الناتج المحلي العالمي سنويا وفقا لأرقام شركة التأمين “سويس ري“.

في نطاق أوسع، أدت الكوارث المتعلقة بالطقس والمناخ والمياه إلى تكبّد العالم خسائر يومية تتجاوز 200 مليون دولار خلال الخمسين عاما الماضية. إذ إنه خلال عام واحد فقط اجتاح العالم كوارث مناخية مروعة، ووجد تقرير دولي صدر أخيرا أن الحالات الـ 10 الأعلى كلفة بين العواصف والفيضانات وحالات الجفاف، ترتّب على كل منها خسائر بحوالي 2.5 مليار جنيه استرليني كحد أدنى. منظمة “كريستيان آيد” سلّطت الضوء على أسوأ الكوارث المتصلة بتغير المناخ التي عانى منها العام الحالي، فيما العالم يستعد لمواجهة مزيد من الفيضانات وأحوال القحط وحرائق الغابات المدمرة.

بالنظر إلى التكلفة الهائلة التي تتكبدها اقتصادات العالم، جرّاء تغيرات المناخ، من المرجّح أن يكون تغير المناخ، في رأي الخبراء والمحللين، أحد أهم تحديات الاقتصاد الكلي والسياسات المالية والديون التي سيواجه أعضاء “صندوق النقد الدولي” سيكون خلال العقود القادمة. حيث ستتطلب مواجهة هذا التحدي زيادة هائلة غير مسبوقة في الاستثمار العالمي في التكيف مع المناخ والتخفيف من آثاره.

على الرغم من أن الجميع سيتأثرون بتغير المناخ، غير أن الذين يعيشون في أفقر دول العالم، والذين ساهموا بأقل قدر في المشكلة، هم الأكثر عرضة للخطر. حيث لديهم أقل الموارد المالية للاستجابة للأزمات أو التكيف، ويعتمدون بشكل وثيق على عالم طبيعي صحي ومزدهر للغذاء والدخل.

أيضا في الولايات المتحدة، غالبا ما تكون المجتمعات ذات الدخل المنخفض والمجتمعات الملونة في الخطوط الأمامية لتأثيرات المناخ. ولأن تغير المناخ وزيادة عدم المساواة هما أزمتان مترابطتان، يجب على المجتمع الدولي اتخاذ تدابير لمكافحة كلتيهما. لذلك، بالنظر إلى ما سبق، فإن هذا الأمر برمّته يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات، منها الخسائر الاقتصادية للتغيرات المناخية حتى وقت قريب، إلى جانب التوقعات والمؤشرات الخاصة بآثار تغير المناخ على النمو الاقتصادي وخاصة اقتصاد الدول العربية، بالإضافة إلى تساؤل حول مسؤولية الدول الكبرى المعنية بمعالجة والتصدي لتداعيات التغير المناخي اقتصادياً.

خسائر باهظة

بالحديث عن الخسائر نتيجة تغيرات المناخ في عموم دول العالم، فقد كلفت موجات الحر التي اشتدت حدتها بسبب تغير المناخ، الاقتصاد العالمي تريليونات الدولارات في السنوات الثلاثين الماضية، مع دفع الدول ذات الاقتصادات الهشة الثمن الأكبر. كذلك، فإن هذه الآثار الاقتصادية غير المتوازنة، تساهم في اتساع أوجه اللامساواة حول العالم، وفق دراسة نشرتها مجلة “ساينس أدفانسز” مؤخرا.

وفق تحليل الدراسة فإن كلفة موجات الحر الشديدة الناجمة عن تغير المناخ تتحملها حتى الآن وبشكل غير متناسب الدول والمناطق الأقل مسؤولية عن ظاهرة الاحترار المناخي. وهذه مأساة كبيرة وعميقة. كذلك يأتي تغير المناخ في وقت تسود فيه عدم مساواة اقتصادية في العالم، ويعمل على مفاقمتها.

على سبيل المثال، فإن فترات موجات الحر الشديد بين عامَي 1992 و2013 كلّفت الاقتصاد العالمي نحو 16 تريليون دولار. لكن في حين خسرت الدول الغنية نحو 1.5 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي للفرد خلال تعاملها مع موجات الحر، خسرت البلدان الفقيرة نحو 6.7 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي للفرد.

شركة التأمين “سويس ري”، تقول إن الكوارث المتعلقة بتغيرات المناخ تكبد العالم خسائر يومية تتجاوز 200 مليون دولار خلال الخمسين عاما الماضية. وإن هذه الأرقام مرشحة بالارتفاع بشكل أكبر في حال عدم تحرك العالم بالسرعة الكافية لإبقاء ارتفاع درجات الحرارة ضمن المستويات المطلوبة والوصول لصافي صفر انبعاثات بحلول العام 2050.

فكلما زاد ارتفاع درجات الحرارة أصبح العالم أكثر عرضة للمزيد من تداعيات التغير المناخي من كوارث طبيعية وغيرها وهو أمر قد يكبّد الاقتصاد العالمي ما يصل إلى 178 تريليون دولار حتى عام 2070 وفقا لمؤسسة “ديلويت”.

منظمة “كريستيان آيد” بدورها سلّطت الضوء على أسوأ الكوارث المتصلة بتغير المناخ التي عاناها العام الحالي، وأشارت إلى أن إعصار “إيان” خلّف الضرر المالي الأكبر، إذ بلغت كلفة الخسائر التي أفضى إليها عندما ضرب الولايات المتحدة وكوبا في أيلول/سبتمبر 2022، 82.4 مليار جنيه استرليني، أي ما يعادل نحو 100 مليار دولار.

قد يهمك: انعدام الأمن الغذائي والثروة في المغرب العربي.. الأسواق تتعرض للصدمات والتقلبات؟

أيضا حدثت فيضانات كبيرة في باكستان بين حزيران/يونيو وأيلول/سبتمبر الماضيين، وتسببت بخسائر مادية قُدّرت بنحو 4.6 مليارات جنيه استرليني أي نحو 5.56 مليار دولار، علما أنه رقم يشمل الخسائر المؤمن عليها وحسب، في حين تقدر الكلفة الحقيقية للفيضانات المدمّرة بأكثر من 24.7 مليار جنيه استرليني، أي حوالي 30 مليار دولار. العلماء وجدوا أن احتمال حدوثها تفاقم نتيجة أزمة المناخ.

بعيدا عن الحوادث المناخية المتطرفة الـ 10 الأكثر كلفة، تبرز أيضا في التقرير الصادر عن تلك المؤسسة الخيرية حوادث مهمة أخرى متصلة بالمناخ تسببت في أعداد من الوفيات وحالات نزوح ودمار وأضرار بيئية. وتندرج بين تلك الحوادث، وفق ما نقله موقع “إندبندنت”، فيضانات ماليزيا والبرازيل وغرب إفريقيا، وموجة جفاف طويلة الأجل في بلدان القرن الإفريقي، وموجات الحر في الهند وباكستان والقطب الشمالي والقارة القطبية الجنوبية، وحرائق الغابات في تشيلي والعواصف في جنوب شرق إفريقيا والفيليبين، والإعصار المداري في بنغلاديش.

من بين الحوادث الـ 10 التي بلغت خسائر كل واحدة منها 2.5 بليون جنيه استرليني، 3 مليارات دولار كحد أدنى، هناك العاصفة “يونيس” التي ضربت المملكة المتحدة وإيرلندا خلال شباط/فبراير 2022، بجانب أجزاء أخرى من أوروبا، وتسببت في 16 وفاة وكبّدت البلاد 3.5 مليارات جنيه استرليني، 4.23 مليار دولار.

أما بالحديث عن الجفاف الذي ضرب أوروبا صيف عام 2022، وزاد احتمال حدوثه مرات عدة بسبب تغير المناخ، فقد قُدّرت الخسائر بنحو 16.5 مليار جنيه استرليني، 30 مليار دولار، إذ ضرب المحاصيل الزراعية وأدى تاليا إلى ارتفاع الأسعار، إضافة إلى تعطيل عمليات الشحن والأضرار التي لحقت بمحطات الطاقة.

كلفة الجفاف التي ضربت الصين هذا العام، فقد بلغت 6.9 مليارات جنيه استرليني، 8.33 مليار دولار، فيما تكبدت البرازيل 3.3 مليارات جنيه استرليني، حوالى 4 مليارات دولار نتيجة أحوال قحط مماثلة. وفي أستراليا وجنوب إفريقيا حصدت الفيضانات خلال عام  2022 الماضي، خسائر بالمليارات، ولم تسلم الصين من الفيضانات أيضا وكانت أضرارها بالغة الكلفة.

في الولايات المتحدة وحدها، وخلال عام واحد فقط، تسببت عواصف وحرائق غابات وأعاصير وموجات جفاف شديدة بخسائر تجاوزت 165 مليار دولار، ومع مفاقمة تغير المناخ بعض الظواهر الجوية، وفق ما ذكر تقرير لـ”الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي” الأميركية،إذ شهدت البلاد 18 كارثة جوية في عام 2022 الماضي، وكان إعصار “إيان” الأكثر كلفة إذ أسفر عن خسائر بلغت قيمتها 113 مليار دولار.

المحلّلين على إثر هذه الكوارث التي حصلت في أميركا يقولون إن تغير المناخ يتسبب في حدوث المزيد من الظواهر الشديدة التي تسبب أضرارا كبيرة وغالبا ما تؤدي إلى أخطار متلاحقة مثل جفاف شديد وحرائق غابات مدمرة وفيضانات وانزلاقات تربة خطيرة. التقرير الحكومي يقول إن هذه الأرقام لا تعكس الكلفة الإجمالية للكوارث المناخية في الولايات المتحدة العام الماضي، بل فقط تلك المرتبطة بالكوارث الكبرى التي تسببت كل منها في أضرار تزيد على مليار دولار، مشيرا إلى أن الكوارث التي بلغت خسائرها مليار دولار شكلت حوالى 85 بالمئة من الأضرار الإجمالية الناجمة عن كل الكوارث المناخية المسجلة في الولايات المتحدة عام 2022.

التبعات الاقتصادية

من الناحية الاقتصادية، بات جليا تأثير ظاهرة الاحتباس الحراري على الشرايين الحيوية للاقتصاد العالمي، إذ يقدر “صندوق النقد الدولي” أن مقابل ارتفاع درجة حرارة الأرض 3 درجات مئوية ينخفض معدل الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو 2 بالمئة. وعلى المدى الطويل، من المرتقب أن يضعف التغير المناخي النشاط الاقتصادي العالمي نتيجة الأضرار المترتبة على قطاعات اقتصادية حيوية مثل الزراعة والسياحة، والأضرار في الممتلكات والبنى التحتية، وارتفاع تكاليف التأمين، وضعف الإنتاجية، والتهجير.

هذا بالإضافة إلى كبح النمو الاقتصادي، حيث يزيد التغير المناخي من تفاقم العديد من المخاطر مثل أزمة المياه، ونقص الغذاء، ورفع معدلات المخاطر الأمنية والاجتماعية. إلى جانب تهدد الإنتاج الزراعي العالمي مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وبالتالي ارتفاع معدل التضخم والضعف المالي، الأمر الذي يؤثر سلبا على المداخيل وبالتالي على القدرة الشرائية والاستهلاك، وفق تحليل لـ”اتحاد المصارف العربية”.

من المرجح أيضا أن يزيد الطلب على الطاقة للتبريد والتدفئة لمواجهة التقلب المناخي، مما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الطاقة وبالتالي إلى المزيد من الارتفاع في نسبة التضخم. كما يؤثر على القطاع السياحي في بعض الدول، فجاذبية المقاصد السياحية تعتمد بدرجة كبيرة على المناخ. وبما أن التغير المناخي هو من أخطر التحديات التي تواجه قطاع التأمين، فمن المتوقع أن يؤدي ارتفاع أقساط التأمين في المناطق الأكثر عرضة لمخاطر التغير المناخي إلى ارتفاع تكاليف الأعمال، مما يؤثر سلبا على بيئة الأعمال ويُضعف الاستثمار والنشاط الاقتصادي.

إذاً، يبدو أن تداعيات تغير المناخ سوف تكون أكثر حدة على اقتصادات الدول النامية ولا سيما بعض دول الشرق الأوسط والقارة الإفريقية وبعض دول قارة آسيا. ففي لبنان مثلا تُظهر نتائج دراسة أطلقتها “وزارة البيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي” حول ذلك، وقالت إن كلفة الأضرار التي يلحقها تغير المناخ على الاقتصاد اللبناني ستصل إلى أكثر من 80 مليار دولار في العام 2040، وستتحمل الحكومة اللبنانية نحو 26 مليار دولار من هذه الأعباء. وفي مصر، مقابل ارتفاع مستويات البحار مترا واحدا، يكون أكثر من 6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي المصري في خطر، وهذه النسبة ترتفع إلى أكثر من 12 بالمئة مقابل ارتفاع مستويات البحار 3 أمتار. وقطر وتونس والإمارات معرّضة أيضا، حيث إن أكثر من 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لكل منها في خطر مقابل ارتفاع مستويات البحار مترا واحدا، وهذه النسبة ترتفع إلى حوالي 3-5 بالمئة مقابل ارتفاع مستويات البحار 3 أمتار.

قد يهمك: ما علاقة التغير المناخي بارتفاع معدلات الاتجار بالبشر؟

بالنظر إلى أن النظام الزراعي السائد في معظم الدول العربية ولا سيما سوريا والعراق والأردن ومصر يعتمد على الأمطار. لذلك، فإن الإنتاجية الزراعية والأمن الغذائي يرتبطان بالتقلبات السنوية للهطولات المطرية نتيجة التغير المناخي. وقد يكون لهذا آثار كارثية على الإنتاج الزراعي في هذه الدول، حيث من المتوقع أن يزداد شح المياه مع خطر انخفاض إنتاج الغذاء بنسبة 50  بالمئة.

التوقعات والمؤشرات

بحسب الباحثين فإنهم ركزوا على أكثر 5 أيام سخونة كل عام في مناطق معينة تعتبر فيها موجات الحر الشديدة ظاهرة مناخية متطرفة. حيث أن الفكرة العامة هي النظر إلى الاختلافات في درجات الحرارة الشديدة ومعرفة إلى أي مدى ينعكس ذلك في الاختلافات في النمو الاقتصادي لكل منطقة. ومن ثم، في الخطوة التالية، ينظر في طريقة تأثير تغير المناخ الذي يسببه النشاط البشري على درجات الحرارة الشديدة هذه.

لكن بصورة عامة، فإن الكلفة الحقيقية لموجات الحر الشديد، ليس بهذا الحجم الكبير، إذا ما قورن بالكوارث الطبيعية، مثل الأعاصير والفيضانات والحرائق، إذ إن درس خمسة أيام فقط في السنة لا يعكس الوتيرة المتزايدة لهذه الظواهر المناخية، كما لم يتم تضمين كل التكاليف المحتملة، حيث أن كلفة التحرك واتخاذ تدابير، كإنشاء مراكز تبريد أو تركيب مكيفات هواء مقابل تكلفة التقاعس عن العمل، ويمكن تفاديها بتكاليف معقولة، على الرغم من أن المكاسب الاقتصادية للاستجابة للأيام الخمسة الأكثر سخونة في العالم يمكن أن تكون هائلة. لكن الباحثون أشاروا إلى أن الاستجابة الأكثر أهمية هي تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة لإبطاء ظاهرة الاحترار المناخي من المصدر.

كما أن تغير المناخ سيؤدي حتما إلى إفراز آثار سلبية جمة، وأبرزها عدم الاستقرار الاقتصادي في العديد من البلدان، وهو ما يحدث تدريجيا بالفعل في الوقت الراهن. إذ يقرّ الميثاق العالمي لـ”الأمم المتحدة” بشأن اللاجئين بأن المناخ وتدهور البيئة والكوارث تتفاعل بشكل متزايد مع دوافع تحركات اللاجئين. والمجتمعات ذات الموارد الأقل، بما في ذلك تلك التي تواجه عدم الاستقرار السياسي والفقر، ​​ستشعر بالآثار أولا والأكثر تدميرا.

بحسب تقديرات “التقييم الوطني للمناخ” لعام 2018، ما لم يتم اتخاذ إجراءات من قبل المجتمع الدولي، فإن تغير المناخ سيكلف الاقتصاد الأميركي لوحده ما يصل إلى 500 مليار دولار سنويا بحلول نهاية القرن. وهذا لا يشمل حتى آثاره الهائلة على صحة الإنسان. كما وستتعرض صناعات محلية بأكملها، من الصيد التجاري إلى السياحة إلى التربية، لخطر الانهيار، إلى جانب الدعم الاقتصادي الذي تقدمه.

دراسة أجرتها أكبر شركة لإعادة التأمين في العالم، توقعت أن يتسبب تأثير التغير المناخي على الزراعة والأمراض والبنية التحتية، بالإضافة إلى الإنفاق الحكومي وغيره، في خسارة الاقتصاد العالمي 23 تريليون دولار، أي 10بالمئة من قيمته، بحلول عام 2050.

أما شركة “سويس ريإنشورانس”، فقد توقعت عبر دراسة سابقة أن بلدان أعضاء “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”، وهي مجموعة من أغنى دول العالم، ستشهد انخفاضا بنسبة 5 بالمئة في حجم اقتصاداتها، مقارنة بـ 9 بالمئة في أميركا الجنوبية، وحوالي 17 بالمئة في الشرق الأوسط وإفريقيا، و 25 بالمئة في دول “رابطة جنوب شرق آسيا” (آسيان).

الأشكال الرئيسية للضرر الاقتصادي قد تأتي من خلال المخاطر المادية، مثل الأضرار التي تلحق بالممتلكات والاضطرابات التجارية الناجمة عن زيادة مستويات الأحداث المناخية القاسية، وفقدان الإنتاجية، واضطرار الحكومات إلى إعادة توزيع الموارد الشحيحة لمواجهة التغير المناخي. ويتبنى التقرير الصادم وجهة نظر تقول إن بعض مستويات التغير المناخي ستبقى، وستسبب أضرارا اقتصادية في المستقبل.

تحديات أمام النمو الاقتصادي

بالامعان إلى المؤشرات والتوقعات السلبية والتهديدات الكبيرة، فإن مواجهة مخاطر تغير المناخ والتصدي له قد تنعكس إيجابا على الاقتصاد العالمي، إذ تتيح فرصا كبيرة للاستثمار في الاقتصاد الأخضر، والتي من شأنها أن تحقق ازدهارا كبيرا في الأسواق المتقدمة والناشئة، مما يجعلها منافسا قويا لجميع الثورات الصناعية والتكنولوجية الأكثر شهرة في التاريخ.

هذا التحدي أمام “صندوق النقد الدولي” خلال العقود القادمة، سيتطلب زيادة هائلة غير مسبوقة في الاستثمارات العالمية للتكيف مع المناخ والتخفيف من آثاره. وهو ما يحتاج إلى معدل يقدر بـ 630 مليار دولار في السنة، وهو ما قد بدأ بالفعل في التوسع بحجم الاستثمارات العالمية، غير أن هذا المبلغ لا يزال أقل بكثير من التمويل المقدر اللازم للتحول الأخضر.

الحقيقة هي أن المستويات الحالية لتمويل المناخ ليست صغيرة جدا فحسب، بل يتم توزيعها أيضا بشكل غير متساو وغير فعال خاصة في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، وفي كثير من الأحيان، بسبب قيود القدرات، وفجوات المعلومات، والتكاليف الأولية المحتملة المرتفعة، فإن الاقتصادات الأكثر عرضة لتغير المناخ والأكثر احتياجا إلى تمويل المناخ، مثل دول الكاريبي، هي أيضا البلدان الأقل قدرة على الوصول إلى تمويل المناخ. وبالتالي يجب أن يتغير هذا إذا كان التمويل المتعلق بالمناخ يفي بوعد المساهمة المجدية في إزالة الكربون وتجنب كارثة مناخية.

لمواجهة هذه التحديات يجب على الدول المعنية النظر إلى التطورات المالية والاقتصادية الأخيرة، إذ يقول “النقد الدولي”، إن الاقتصاد العالمي لا يزال يتنقل عبر المياه المضطربة وتواجه معظم الاقتصادات رياحا معاكسة كبيرة، وذلك على خلفية ارتفاع التضخم، وارتفاع الدين العام، وتقلب أسعار السلع، وعدم اليقين الجيوسياسي الناجم عن الغزو الروسي لأوكرانيا، والآثار المستمرة لوباء “كورونا”، إضافة إلى هذه التحديات، يواجه مديرو الديون ومموّلو المناخ بشكل عام ظروفا مالية أكثر صرامة في العديد من المناطق، وبالتالي سيكون لتغير المناخ آثار سلبية على الاقتصاد العالمي ونموه أيضا، إذا لم يتحرك المجتمع الدولي بشكل صحيح وعلى النحو الأمثل.

ما الذي يمكن فعله؟

إن كيفية الاستجابة ومواجهة التغيرات المناخية، يكمن في تمويل المناطق المتضررة لا سيما الدول الفقيرة بالقدر الكافي لتلبية احتياجات الاستثمار في المنطقة، وذلك من خلال جذب رؤوس أموال القطاع الخاص إلى المشاريع المهنية بانخفاض الكربون، وهذا الأمر من شأنه أن يلعب عامل التآزر بين القطاعين العام والخاص وبالتالي تحقيق دورا حاسما من خلال التمويل المختلط.

للمجتمع الدولي أيضا دور مهم يلعبه، بما في ذلك “صندوق النقد الدولي”. في هذا المجال، يرى أبرز المحللين، أن هناك تيارين مهمين من الدعم؛ الأول هو إتاحة الموارد المالية لتمويل المناخ. والثاني هو توفير المساعدة التحليلية والسياساتية والفنية للوصول إلى التمويل المتعلق بالمناخ.

فيما يتعلق بالموارد المناخية، نتج عن مؤتمر “كوب27” العديد من الإضافات المهمة إلى المشهد الدولي لتمويل المناخ. تم إيلاء معظم اهتمام وسائل الإعلام للاتفاقية التاريخية لإنشاء صندوق جديد “للخسائر والأضرار” للبلدان المعرضة للخطر، والذي ينتظر الجميع مزيدا من التفاصيل بشأنه من حيث تشغيله وحجمه. ولكن كانت هناك أيضا إضافات رئيسية أخرى. وهي مبادرة “الدرع العالمي” ضد مخاطر المناخ التي قادتها “مجموعة العشرين” و”مجموعة الدول السبع” تحت الرئاسة الألمانية. كما أضاف “النقد الدولي” صندوق “المرونة والاستدامة”، أو “آر إس تي”، وهو مرفق إقراض جديد مصمم لتوفير تمويل طويل الأجل لمواجهة التحديات الهيكلية طويلة الأجل، بما في ذلك تغير المناخ.

في إطار الحلول والتصدي لتداعيات تغيرات المناخ، قد يكون التحرك نحو تسريع جهود مكافحة الاحترار بمثابة طوق نجاة للاقتصاد العالمي من هذه التداعيات وإن كان ذلك قد يفرض بعض التكاليف الإضافية على المدى القصير.

من وجهة نظر “ديلويت“، فإن تسريع جهود مكافحة التغير المناخي قد يضيف للاقتصاد العالمي نحو 43 تريليون دولار على مدى العقود الخمس المقبلة وبما أن جوهر هذه الجهود يمر عبر التحول للطاقة النظيفة فإن مسار خفض درجات الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية سيوفر ما يصل إلى 122 مليون وظيفة متعلقة بالطاقة بحلول العام 2050.

كذلك، تعقيبا على خسائر هذه الكوارث، يقول باتريك وات، الرئيس التنفيذي لمنظمة “كريستيان آيد”، إن وقوع 10 كوارث مناخية منفصلة خلال العام الماضي تتخطى كلفة الواحدة منها 3 مليارات دولار، يؤشر إلى الخسارة المالية التي يطرحها عدم اتخاذ أي إجراء في شأن أزمة المناخ، ولكن خلف الأرقام المالية تكمن ملايين القصص حول خسائر في الأرواح وكثير من المعاناة والآلام.

من دون التوصل إلى خفوض كبيرة في مستويات انبعاثات غازات الدفيئة، فإن هذه الخسائر البشرية والمالية لن تنفك وستزداد، وتتبدى الكلفة البشرية لتغير المناخ في المنازل التي جرفتها الفيضانات وموت الناس بسبب العواصف ودمار سبل العيش نتيجة الجفاف، وقد كان عام 2022 الماضي كارثيا بالنسبة إلى الأشخاص الذين عاشوا في الخطوط الأمامية في مواجهة أزمة المناخ.

قد يهمك: التغير المناخي يهدد بإغراق المدن الساحلية.. إطار للتكيف مع المخاطر؟

أيضا، يتوجب على الدول المعنية لاحتواء مخاطر تغيرات المناخ، الالتزام بوعودها وفق الاتفاقيات الدولية التي جرت خلال الفترات السابقة، ولا سيما أهداف “اتفاقية باريس” للمناخ، المتمثلة في الحفاظ على درجات الحرارة من الارتفاع بمقدار درجتين مئويتين، سيسهم في منع تراجع الاقتصاد العالمي بنسبة 4.2 بالمئة.

في أحد تقاريرها الأخيرة، قدّمت “الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ” سيناريو الانبعاثات الأكثر تفاؤلا، حيث يتجاوز العالم لفترة وجيزة 1.5 درجة من الاحترار، لكن تدابير العزل تتسبب في تراجعها إلى ما دونها بحلول عام 2100. والتكيف مع المناخ، وهو مصطلح يشير إلى التكيف مع تأثيرات المناخ، لم تعد اختيارية؛ بل إنه ضروري، لا سيما بالنسبة إلى الفئات السكانية الأكثر ضعفا في العالم.

لذلك، على المجتمع الدولي تقديم حلول عاجلة، وذلك عبر دعم الاستثمارات الضخمة في الطاقة النظيفة والمتجددة والتقنيات المستدامة. ولكي تنجح الحلول المناخية، يجب أن تعالج أيضا الأزمات المتقاطعة، مثل الفقر والعنصرية وعدم المساواة بين الجنسين، التي تزيد من تفاقم أسباب وتأثيرات أزمة المناخ. لكن إذا ما فشلت الدول في الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، يتوقع العلماء ارتفاع درجة حرارة بشكل كارثي، بحيث تبلغ 4.3 درجة مئوية أو حوالي 8 درجات فهرنهايت، بحلول نهاية القرن. ومن ثم ستبدأ الحروب على المياه والمستشفيات ستكون مزدحمة لمواجهة انتشار الأمراض، ومصائد الأسماك ستكون شبه منهارة وموجات الحرارة ستكون أكثر فتكا بالبشرية وهذه ليست سوى بعض التأثيرات التي تنبأ بها علماء المناخ.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.