في لحظة تاريخية تعكس أبعادا جديدة للصراع السياسي والقوة في روسيا، تمكّنت ثورة “فاغنر” من تجاوز حلف بوتين بسرعة مذهلة، فبالرغم من استطاعة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إحباط هذه المحاولة الانقلابية في وقت قصير جدا ولكن بوساطة خارجية، إلا أن تداعياتها السياسية والاجتماعية قد تظل تؤثر بشكل جوهري على مستقبل بوتين ونظامه الحاكم.

لقد كانت هذه “الثورة”، التي قادها المرتزق الشهير يفغيني بريغوجين، بمثابة هزة أرضية في ساحة السياسة الروسية. وفي الوقت الذي تركزت فيه تقارير وسائل الإعلام على قِصر مدّة هذه المحاولة الانقلابية، فإن الدلائل تؤكد أن الوقت المحدود الذي استغرقته لا يعكس حقيقة الأمر؛ بأنها أعطت ضربة موجعة لسلطة بوتين ونظامه.

رغم أن بوتين قد تنفس الصعداء بعد خضوع “فاغنر” لشروط المصالحة، إلا أن هناك إشارة إلى أن الانفراج الحاصل هو مجرد هدنة مؤقتة. وأن الأضرار التي لحقت بسمعة بوتين وسلطته بسبب هذه المحاولة الانقلابية قد تكون غير قابلة للتصحيح، وقد تكون لها تداعيات بعيدة المدى تهدد استقرار النظام الحاكم في روسيا.

بعد عودة قوات “فاغنر” من أطراف موسكو، عقد المسؤولون الروس اجتماعات ملحّة مع حلفائهم، بما في ذلك الصين وكوريا الشمالية، لمناقشة الوضع الحالي؛ هذه الخطوة تكشف عن قلق بوتين من أن هذه الثورة قد تكون بداية لتهديدات أكبر لسلطته السياسية وتأثيره الدولي، وهنا تثار تساؤلات حول ما تأثير تمرد “فاغنر” على العلاقات الدولية لروسيا، وكيف تعاملت الدول الغربية وشركاؤها مع هذه الأحداث، وهل يمكن اعتبار هذا التمرد بداية لتحول سياسي أو اجتماعي في روسيا، وكيف ستتغير الديناميكية السياسية في روسيا بعد هذه الأحداث.

زلزال تحت أقدام بوتين

من المؤكد أن تمرد “فاغنر” سيترك أثرا كبيرا على مستقبل بوتين والمؤسسة الحاكمة في روسيا. قد يتعين على بوتين أن يعيد التقييم الشامل لاستراتيجيته السياسية وأساليبه الحاكمة. فالشعب الروسي، الذي شهد تلك الأحداث الصادمة، قد يبدأ في الشك والتساؤل عن قدرة بوتين على الحفاظ على الاستقرار وتوجيه البلاد نحو المستقبل.

يفغيني بريغوجين زعيم مرتزقة "فاغنر" العسكرية - إنترنت
يفغيني بريغوجين زعيم مرتزقة “فاغنر” العسكرية – إنترنت

كيف أثّر تمرد “فاغنر” على مستقبل بوتين، يظهر من تحرك موسكو الدولي، حيث كان الحل لإنهاء هذا التحرك غير المتوقع لدى “الكرملين” بواسطة خارجية عبر بيلاروسيا، فيما كان الرد السياسي لروسيا عبر الحديث مع حلفاء معزولين دوليا دلالة على انغلاق الأفق أمام بوتين.

الصين أعلنت أنها تدعم روسيا في “حماية الاستقرار الوطني”، وذلك في أول تعليق رسمي لبكين على تمرد قوات “فاغنر”، وذلك بعد استقبال وزير الخارجية الصيني تشين غانغ، نائب وزير الخارجية الروسي، أندري رودينكو. بدورها، أكدت كوريا الشمالية، فنزويلا، ونيكاراغوا دعمهما للسلطات الروسية في مواجهة متمردي مجموعة “فاغنر”.

بالمقابل، ذكر البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي جو بايدن، تحدث مع زعماء فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، إثر انطلاق “فاغنر” صوب موسكو بعد الاستيلاء على مدينة جنوبية خلال الليل، حيث أطلع بايدن على الوضع الجاري في روسيا من قبل فريق الأمن القومي، فيما لفت المتحدث باسم المستشار الألماني، أولاف شولتز، إلى أنه خلال المحادثة، أكد القادة الأربعة التزامهم بمواصلة دعم أوكرانيا طالما كان ذلك ضروريا.

قوات “فاغنر” أوقفت زحفها إلى موسكو مساء السبت بموجب اتفاق توسّط فيه الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، نص على إنهاء التمرد مقابل ضمانات أمنية لقائد “فاغنر” ومقاتليه، والسماح ليفغيني بريغوجين باللجوء إلى بيلاروسيا، كما أعلن حاكما مقاطعتي فورونيج وليبيتسك، أن وحدات مجموعة “فاغنر” انسحبت أمس الأحد، من المنطقتين اللتين تبعدان عن موسكو نحو 450 كيلومترا. وكانت تلك الوحدات قد انتشرت في المقاطعتين قادمة من منطقة روستوف. قبل ذلك، بحلول مساء السبت الفائت، غادر بريغوجين وقواته مدينة روستوف التي تبعد 550 كيلومترا جنوب موسكو، وذلك بعد أقل من 24 ساعة على بدء التمرد.

في تحليل مثير للجدل، أشارت صحيفة “التليغراف” البريطانية، إلى انتهاء طريق فلاديمير بوتين، وذكرت بوضوح تام أن ما حدث يشكل نهاية مساره، فبالرغم من نجاته من ثورة مسلحة بقيادة بريغوجين ومرتزقة “فاغنر” الذي صنعهم، إلا أنه سيبقى مكسورا إلى الأبد وأيامه في “الكرملين” تُعد على أصابع اليد.

القادة الروس والسوفييت نادرا ما استمروا لفترة طويلة بعد محاولة انقلاب عسكري، وأن الهيمنة والسيطرة التي شيّدها بوتين حول ذاته تأثرت بشدة بسبب غزوه لأوكرانيا، وهي الآن على وشك الانهيار؛ لأن الروس يفضلون قادة قويين، ويعتقدون أن الضعف هو الطريق نحو الهلاك.

سلطة بوتين في خطر؟

رغم ادعاء بريغوجين أن كتيبته تتكون من 25 ألف مسلح، إلا أن الإحصائيات تشير إلى أن عدد قوات “فاغنر” في كل من أوكرانيا وروسيا لا يتعدى 10 آلاف مقاتل، لكن بوتين خرج مترددا ومستنكرا لتحرك بريغوجين باعتباره خيانة للوطن دون الجزم بالطريقة التي يميز بها بين الأعداء والخونة، وإذا ما أفلت من العقاب كجزء من صفقة هدنة، فسيكون ذلك إذلالا وإحراجا لبوتين، حتى أمام حلفائه الذي تباهوا بمحاربته للغرب عبر غزوه لأوكرانيا.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي خطابا بعد إعلان تمرد "فاغنر" - "فرانس برس"
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي خطابا بعد إعلان تمرد “فاغنر” – “فرانس برس”

الخبير في الشؤون العسكرية الروسية ومدير الدراسات الروسية بمركز التحليلات البحرية، مايكل كوفمان، أوضح لـ”الحل نت”، أن تمرد “فاغنر” وتقدم زعيمه نحو موسكو لهما أهمية كبيرة فيما يتعلق بسلطة فلاديمير بوتين؛ إذ إن هذا التمرد يشير إلى وجود عدم رضا واستياء داخل البلاد ويمثل تحدٍّ مباشر للحكم القائم. فتقدم زعيم “فاغنر” نحو موسكو يعني تهديدا مباشرا لمركز السلطة والقوة التي يتمتع بها بوتين في “الكرملين”.

يمكن اعتبار تمرد “فاغنر” بحسب كوفمان، تهديدا فعليا لسيطرة بوتين على السلطة، حيث لقي التمرد شعبيةً وتأييدا من قبل بعض جماهير الروس الذين يعبّرون عن عدم رضاهم عن النظام الحاكم ويسعون إلى تغييرات سياسية واجتماعية. وتشكل هذه التحركات الشعبية تحديا لقوة واستقرار بوتين، وتتسم بتلك الشعبية والتأييد بسبب العوامل المثيرة للاستياء مثل الفساد والتضييق على الحريات الأساسية، فضلا عن فشل المؤسسة العسكرية من تحقيق إنجازات في أوكرانيا.

من المتوقع أن يتأثر بوتين وحكمه في المستقبل القريب بعد انتهاء تمرد “فاغنر”. ورد فعل الحكومة والسلطات الروسية سيكون محوريا لاستعادة السيطرة والاستقرار، وقد يكون هناك تغييرات في السياسة الداخلية والخارجية لتهدئة الأوضاع وتعزيز الثقة والتأييد من قبل الشعب الروسي.

الخسائر المتزايدة التي تكبدها الجيش الروسي منذ بدء هجوم أوكرانيا المضاد ضد روسيا، كان قد تنبأ به زعيم مجموعة “فاغنر”، يفغيني بريغوجين، في نهاية أيار/مايو الفائت، عندما طلبت منه القيادة العسكرية الروسية إخلاء المنطقة على حساب الجيش الروسي والقوات الشيشانية الموالية لها، حيث حذر بريغوجين من تعرض روسيا لـ”ثورة” إذا ما استمرت الجهود الحربية المتعثرة في أوكرانيا، إذ إن القوات الروسية غير مستعدة لمقاومة نظيرتها الموالية لأوكرانيا.

أيضا تمرد بريغوجين سبقه إرهاصات، من اشتباك لفظي بين مرتزقة “فاغنر” وقادة الجيش الروسي، وهجوم الحليف المقرب للرئيس الشيشاني رمضان قديروف، على قائد قوات “فاغنر”، بعد أن أشار الأخير إلى أن كتيبة “أخمات” الشيشانية تفتقر على الأرجح إلى القدرة على احتلال منطقة “جمهورية دونيتسك”، فضلا عن اتهام بريغوجين لقيادة الجيش الروسي برفض إيصال الإمدادات العسكرية لقواته، ما أجبره على الخروج بتسجيلات مصورة يشتم فيها قيادة الجيش الروسي.

تمرد “فاغنر” انتهى لكن العواقب لم تنته

الشخصيات داخل النخبة العسكرية الروسية كانت تراقب تصرفات بريغوجين الغريبة بفزع متزايد، إلا أن غياب بوتين عن الساحة بشكل لافت لفترة طويلة، أدى إلى فشله في معالجة العديد من الخلافات المتصاعدة، أبرزها النزاع بين بريغوجين وشويغو.

قوات "فاغنر" داخل المدن الروسية - إنترنت
قوات “فاغنر” داخل المدن الروسية – إنترنت

طبقا لحديث كوفمان، فإن المستقبل المحتمل لبوتين والمؤسسة الحاكمة في ضوء تمرد “فاغنر” غير واضح حاليا. وقد تزداد التحديات والتمردات في المستقبل إذا لم يتم التعامل بشكل فعال مع القضايا التي تشغل الشعب الروسي. وقد يتطلب ذلك تغييرات سياسية واجتماعية أكبر لاستعادة الثقة والاستقرار.

يمكن اعتبار تمرد “فاغنر” بداية لتحول سياسي أو اجتماعي في روسيا، وقد تكون لهذه الأحداث نتائج محددة على المشهد الروسي في المستقبل، مثل زيادة الضغوط لإجراء تغييرات سياسية واقتصادية وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، والانسحاب من أوكرانيا.

يمكن أن تتسبب محاولة الانقلاب أو التمرد التي قادتها ميليشيات “فاغنر” في زعزعة صورة الجيش الروسي، خصوصا أنه كان يُعتبر ثاني أقوى جيش في العالم بعد الجيش الأميركي، ولكن الحرب الروسية في أوكرانيا أدت إلى كشف نقاط ضعف في قدراته.

على الرغم من تأكيد المتحدث باسم “الكرملين”، ديمتري بيسكوف، في تصريحاته بأنه غير مرجح أن يؤثر التمرد الفاشل لـ “فاغنر” على الحملة الروسية ضد كييف وأن العملية العسكرية مستمرة، إلا أن الدلائل تشير إلى تدهور الحالة المعنوية للجنود الروس الذين يحاربون في أوكرانيا. وقد يكون ذلك بسبب التصريحات التي أطلقها زعيم ميليشيا “فاغنر”، والتي انتقد فيها أداء القادة العسكريين الروس ورميهم بالجنود إلى جبهات القتال دون إعداد مناسب.

برأي كوفمان، ليس لتمرد “فاغنر” تهديدًا مباشرا للتحالفات التقليدية لروسيا مع الصين وكوريا الشمالية وفنزويلا؛ ومع ذلك، يمكن أن يكون له تأثير غير مباشر على هذه العلاقات، فتحافظ روسيا والصين على علاقة استراتيجية وشراكة قوية في مجالات الاقتصاد والسياسة والأمن. لكن وجود أزمة داخلية في روسيا مثل ثورة “فاغنر” قد يشتت انتباه وموارد روسيا ويؤثر على قدرتها على المشاركة بنشاط في هذه الشراكة مع الصين.

أيضا تاريخيا تمتلك روسيا علاقة تعاونية مع كوريا الشمالية، ووجود أزمة داخلية في روسيا قد يؤثر على قدرتها على تعزيز هذه العلاقة ودعم كوريا الشمالية في السياسة والأمن. كما تعتبر روسيا حليفا مهما لفنزويلا، وتقدم لها الدعم السياسي والاقتصادي. وقد يشتت التركيز والموارد الروسية بسبب تمرد “فاغنر”، مما يقلل من قدرتها على تعزيز العلاقات ودعم فنزويلا في المستقبل.

معنى انقلاب “فاغنر” يتجاوز الأحداث الجارية وينطوي على مخاطر وتحديات جديدة لبوتين وروسيا بأكملها. ومع استمرار الحركات الاحتجاجية والتوترات السياسية في البلاد، يبقى السؤال الأهم، هل سيستطيع بوتين الحفاظ على سطوته ومكانته الريادية، أم أن ثورة “فاغنر” تمثل بداية النهاية، والإجابة على هذا السؤال ستحدد مسار المستقبل السياسي لروسيا وضعف بوتين الذي كان يصور نفسه كزعيم عظيم أمام تحديات لم يسبق لها مثيل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات