الصين خلال الستة أشهر السابقة، استماتة من أجل إقناع دول “بريكس” الخمسة توسيع المجموعة بمزيد من الأعضاء، ورغم رفض قاطع من قبل الهند والبرازيل، نجحت بكين بتوسيع المجموعة في أعقاب القمة التي عقدت في 22 آب/أغسطس الفائت، بالمقابل ورغم تصريحات رئيس بنك “التنمية” التابعة للمجموعة بصعوبة صك عملة جديدة خاصة بـ”بريكس”، إلا أن سفير روسيا لدى جنوب إفريقيا، إيليا روجاتشيف، قدم أمس الأربعاء، لرئيس البعثة الدبلوماسية الإماراتية، محش سعيد الهاملي، ورقة نقدية رمزية للعملة الموحدة للمجموعة بقيمة اسمية “100 وحدة”.

هذه الإرهاصات تسلط الضوء جزئيا على المعلومة التي قالها وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار، أمس الأربعاء، بأن غياب الرئيس الصيني شي جين بينغ عن قمة مجموعة “العشرين” التي تُعقد بعد أيام في نيودلهي ليس شيئا غير عادي، ولن يؤثر على المفاوضات للتوصل إلى بيان توافقي.

وكالة “إيه إن آي” التي نقلت تصريحات جايشانكار، بيّنت أن قمة الزعماء التي تعقد في يومي التاسع والعاشر من أيلول/سبتمبر الجاري، تصادف بيئة عالمية “مضطربة للغاية”، وأن التوقعات بأن تتوصل مجموعة “العشرين” لحلول بعض المشكلات الملحة في العالم مرتفعة للغاية.

هناك خلافات أخرى بين دول مجموعة “العشرين” على مستويات مختلفة، وأيضا تبرير غياب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حليف الرئيس الصيني، بسبب الحرب في أوكرانيا ليس صحيحا بالمعنى المطلق، فجميع الدول الأعضاء متفقون على ما تختلف عليه روسيا والصين والبرازيل معه أعضاء هذه المجموعة، لا سيما فيما يخص الالتزامات تخفيض الانبعاثات الغازية والتحول إلى الطاقة النظيفة والتكيف مع تغير المناخ، وقواعد التجارة الدولية والحماية التجارية والإصلاحات المطلوبة في منظمة “التجارة” العالمية، فضلا عن مكافحة التهرب الضريبي والتوصل إلى نظام ضريبي عادل وشامل للشركات متعددة الجنسيات، والنقطة الأبرز وهي حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون في بعض الدول المشاركة في مجموعة “العشرين”.

الخلافات عادت إلى الظهور

هذا العام، تثير قمة مجموعة “العشرين” تساؤلات حساسة حول مدى تأثير غياب الرئيس الصيني شي جين بينغ على المشهد الدبلوماسي العالمي، خصوصا أن اجتماع هؤلاء الزعماء الكبار في الهند ليس مجرد تجمع دبلوماسي عادي؛ بل إنه يأتي في وقت يعتبر العالم فيه بأنه يواجه تحديات هائلة، ومنها الأزمة الأوكرانية التي تجذب انتباه العالم بأسره.

غياب شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن هذه القمة يمكن أن يكون له رسائل أبعد، بأنهما يعتبران نفسيهما اللاعبين الرئيسيين في المشهد الدولي، وعدم مشاركتهما في القمة له دور كبير في عدم توجيه المحادثات أو التوصل إلى تسوية دبلوماسية.

بعض التكهنات بدأت تشير إلى قرب انسحاب الصين وروسيا من مجموعة “العشرين” لا سيما بعد توسيع مجموعة “بريكس”، والسبب هو التوترات والخلافات مع الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة على مستويات مختلفة، مثل التجارة والمناخ والأمن وحقوق الإنسان. 

بكين بقيادة شي فقط وموسكو بقيادة بوتين تعتبران أن مجموعة “العشرين” لا تعكس مصالحهما ولا تحترم سيادتهما، وتفضلان التركيز على تكتلات أخرى مثل “بريكس” أو “شانغهاي”، حيث يمكنهما أن تلعبا دورا قياديا وتوجها رسائل سياسية للغرب، وتتحكمان ببقية الأعضاء وفق مصالحهما والعصا هي أموال الديون الصينية ونفط وأسلحة “الكرملين”. 

زاوية أخرى تبرز أيضا، وهي غياب الصين وروسيا بلا شك يعبر عن احتقانهما من بعض الدول المضيفة لقمة “العشرين”، مثل الهند التي تخوض نزاعا حدوديا مع الصين، وترفض بعض الاقتراحات في مجموعة “بريكس”، أو إندونيسيا التي تدعم حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي؛ لذلك تعلو بعض الأصوات على اعتبار غياب الصين وروسيا عن قمّة “العشرين” ضمن سياق استراتيجية للضغط عليها وعلى الغرب، والتأثير على المفاوضات والتوافقات في المجموعة.

من الأقوى؟

بلا شك، مجموعة “العشرين” هي صاحبة الاقتصادات الأكبر في العالم، وتسيطر على حوالي 90 بالمئة من إجمالي الناتج العالمي و80 بالمئة من حجم التجارة العالمية، و75 بالمئة في حالة عدم احتساب التجارة البينية في الاتحاد الأوروبي، وثلثي سكان العالم، وحوالي نصف مساحة يابسة الكرة الأرضية.

شي الذي يحاول فرد عضلاته في هذه القمة، جعل الصين تصل إلى أقصى ما يمكنها فعله لتفادي أزمة اقتصادية، وبحسب تقديرات بنك “غولدمان ساكس” الاستثماري، وصل حجم الديون المحلية على المقاطعات والمدن الصينية إلى 94 تريليون رينمينبي ما يعادل 13 تريليون دولار، وتلك هي الديون الإجمالية التي تضم الدين الرسمي المسجل في كشوف حسابات وميزانيات تلك المقاطعات والمدن والإدارات المحلية الأخرى.

ورفض بكين تزويد المستهلكين والشركات بنوع من المساعدة، مثل برنامج تحفيز كبير، يعني أن تحدياتها الاقتصادية الحالية في توسع؛ أيضا مع تعثر القطاع العقاري الصيني، باتت بكين بقيادة شي أمام أزمة اقتصادية كبرى، خاصة أن هذا القطاع يمثل ما بين 25 و30 بالمئة من حجم اقتصاد البلاد.

أيضا كان الانكماش والديون الهائلة، وتراجع النمو، وارتفاع معدلات البطالة من الموضوعات الرئيسية في الصين هذا العام، حيث قام المستهلكون بالحد من إنفاقهم إلى حد كبير، وهو ما يبيّن أن الصين وروسيا التي تحد العقوبات من تحرك اقتصادها تراجعتا من كونهما قوتين اقتصاديتين وسياسيتين في العالم، أو أن لديهما نفوذا كبيرا في مجموعة “العشرين”، خاصة في قضايا مثل التجارة والطاقة والأمن. 

الأرقام تتحدث

حاليا ووفقا للأرقام، فإن روسيا والصين أقل فاعلية من بريطانيا وفرنسا في مجموعة “العشرين”، خصوصا أن الفاعلية تعتمد على عدة عوامل، مثل الأهداف والمصالح والتحالفات والقدرة على التأثير والتوافق، وهنا الحديث عن أن بريطانيا وفرنسا دولتان صناعيتان متقدمتان، وعضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي، وجزء من الاتحاد الأوروبي، ولديهما دور هام في مجموعة “العشرين”، خاصة في قضايا مثل التنمية والتعليم والصحة. وفي نفس الوقت، لا تتأثران بالأزمات الإقليمية والدولية، على سبيل المثال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو التظاهرات في فرنسا، حيث لم يؤدي ذلك إلى زيادة أو نقصان قدرتهما على المشاركة أو التعاون في المجموعة.

كاتسوجي ناكازاوا، هو أحد كبار الصحفيين في موقع “نيكي”، ذكر أن هناك دلائل تشير إلى حدوث اضطراب في السياسة الداخلية الصينية، مبينا أنه في اجتماع منتجع “بيدايخه” الذي انعقد هذا الصيف بين زعماء الحزب “الشيوعي” الصيني الحاليين والمتقاعدين، قامت مجموعة من شيوخ الحزب المتقاعدين بتوبيخ شي بطرق لم يفعلوها مسبقا، وظهر ذلك من خلال شكوى الرئيس الصيني لأقرب مساعديه عن ذلك.

الصين اليوم ليست في أفضل حال بقيادة شي، لأن اقتصادها بحسب رؤية شيوخ الحزب “الشيوعي” يتراجع بطرق لم يسبق لها مثيل منذ بدء “الإصلاح والانفتاح” في أواخر السبعينيات، كما يعاني القطاع العقاري من حالة من الفوضى، فضلا عن تدهور معدل البطالة بين الشباب إلى حد أن السلطات الصينية توقفت هذا الصيف عن نشر الأرقام.

علاوة على ذلك، الجيش الصيني بات غارقا في حالة من الفوضى في أعقاب إقالة اثنين من كبار جنرالات القوة الصاروخية في تموز/يوليو الفائت بشكل غامض، واختفاء وزير الخارجية تشين غانغ من هذا المنصب لأسباب غير معروفة، لذلك كانت رسالة مجلس شيوخ “الشيوعي” واضحة وجوهرها أنه إذا استمرت الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون اتخاذ أي إجراءات مضادة فعالة، فقد يفقد الحزب الدعم الشعبي، مما يشكل تهديدا لحكمه.

من المرجح أن يكون قرار شي بالتخلي عن قمة مجموعة “العشرين” في الهند محاولة لتجنب فقدان ماء الوجه بعد فرد عضلاته في قمّة “بريكس” بضرورة إعادة قوننة التجارة العالمية والتخلص من القطب الواحد والدولرة؛ رغم حقيقة أن الشركات الصينية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالاقتصاد الأميركي من خلال مجموعة متنوعة من العلاقات التجارية والمالية والتكنولوجية،  ففي عام 2022، بلغت قيمة التجارة بين الولايات المتحدة والصين 755.9 مليار دولار، مما يجعل الصين الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة. كما أن الولايات المتحدة هي أكبر مستثمر في الصين، حيث بلغت قيمة الاستثمارات الأميركية في الصين 806.5 مليار دولار في عام 2022.

بعض الإحصاءات توضح بالمطلق مدى ارتباط الشركات الصينية بالاقتصاد الأميركي، ففي مجال التجارة بلغ حجم التبادل بين الولايات المتحدة والصين 755.9 مليار دولار في عام 2022، وتمثل الولايات المتحدة 20 بالمئة من صادرات الصين و12 بالمئة من وارداتها.

كما بلغت قيمة الاستثمارات الأميركية في الصين 806.5 مليار دولار في عام 2022، وتمثل الولايات المتحدة أكبر مستثمر أجنبي في الصين، وعلى صعيد البنوك يوجد 10 بنوك صينية مدرجة في بورصة نيويورك، وهذه البنوك لديها أصول تتجاوز 2.4 تريليون دولار.

أما في التكنولوجيا، تستثمر الشركات الصينية بكثافة في التكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، وتمتلك الشركات الصينية عددا من الشركات الناشئة الرائدة في مجال التكنولوجيا التي بحاجة للتقنية الأميركية المتقدمة بعشرات السنوات عن بقية العالم، ويشير هذا الارتباط القوي بين الشركات الصينية والاقتصاد الأميركي إلى أن أي اضطراب في العلاقات بين البلدين التي قد يتسبب بها شي، سيكون له عواقب كبيرة على كلا البلدين.

هل ستتأثر قمّة نيودلهي؟

بحسب تقديرات المحلل السياسي والدبلوماسي الصيني السابق، وو يي، فإن رغبة الصين في تجنب التوترات والخلافات مع بعض الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، وإظهار احتقانها من بعض الدول المضيفة لقمة “العشرين”، مثل الهند التي تخوض نزاعا حدوديا معها، أو إندونيسيا التي تدعم حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي، هي أسباب شكلية لعدم حضور شي لقمّة مجموعة “العشرين”.

طبقا لحديث يي لـ”الحل نت”، فإن عدم حضور شي ضربة لرئاسة الهند لمجموعة “العشرين” ووضع قمة نيودلهي، التي كانت تأمل في استغلالها لتحسين علاقاتها مع الصين والدول الأخرى، إلا أنها لا تعتبر هزة لمكانة مجموعة “العشرين” باعتبارها منتدى للقيادة العالمية، لكنها لزيادة شعبية الرئيس الصيني الذي بدأ يفقدها بسبب سياسته داخل البلاد.

المعطل الوحيد في القمة، هو الانقسام داخل مجموعة “العشرين” حول الحرب في أوكرانيا والذي يمكن أن يؤثر على نجاح بيان القمة بشأن أوكرانيا، حيث تدعم بعض الدول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا سيادة ووحدة أوكرانيا، وتدين تدخل روسيا في شؤونها، بينما تدعم بعض الدول مثل روسيا والصين حقوق الأقليات الروسية في شرق أوكرانيا، وتبرر غزو روسيا من حماية مصالحها الأمنية. وهذا التباين يعرقل إمكانية التوصل إلى بيان توافقي يعبر عن موقف مشترك من قبل المجموعة حول هذه القضية.

لكن غياب شي وبوتين سيعزز دور الولايات المتحدة في مواجهة التحديات والخطر الصيني والروسي، وتعزيز شراكتها مع الهند والدول الآسيوية، وأيضا ستحاول الهند استغلال فرصة غياب شي جين بينغ لتحسين علاقاتها مع باقي أعضاء المجموعة، وتعزير دورها كقوة إقليمية وعالمية، وتبادل خبراتها في مجالات مثل التكنولوجية والصحة، بحسب يي.

غياب الرئيس الصيني عن قمة “العشرين” لن يكون الأول هذا العام، حيث بتوقع المحلل الصيني، لن يتمكن شي من السفر إلى الولايات المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر القادم لحضور منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ في سان فرانسيسكو، ويرجع ذلك لأن الصين لديها “نظاما منافقا على مستوى عميق، إنه يروج للماركسية والمساواة والمدينة الفاضلة عبر تبني النظام الشيوعي، لكنه يمارس رأسمالية جشعة وغير متكافئة إلى حد كبير”.

لأن الولايات المتحدة لديها شبكة قوية من التحالفات الدولية، بينما لا تملك الصين مثل هذه الشبكة، ما تجعل من الصعب على الصين وروسيا مقارعة دول مجموعة “العشرين” ولا سيما الولايات المتحدة التي تتمتع بقوة عسكرية بميزانية تفوق مجموع ميزانيات الدول العشر الأخرى في الترتيب، وأقوى اقتصادي ديناميكي وابتكاري في العالم فضلا عن سوق المال المتطور، وأخيرا القوة الثقافية بانتشار لغتها وثقافتها التي تفتقدها موسكو وبكين ورغم محاولتها لتوسيع مستوى نفوذهما الثقافي إلا أنهما تواجهان صعوبة في جذب وإقناع الشعوب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات