في عالم ما بعد الحرب الباردة، تزايدت أهمية المرتزقة والشركات الأمنية الخاصة في تنفيذ الأهداف السياسية والاستراتيجية للدول الكبرى، وخاصة روسيا، التي استخدمت هذه الجماعات كوسيلة للتدخل في مناطق النزاع دون تحمّل المسؤولية أو المخاطرة بالتصعيد، ومن بين هذه الجماعات، برزت مجموعة “فاغنر”، التي تُعتبر أكثرها سرّية وفعالية وانتشارا في العالم.

لقد كانت مجموعة “فاغنر” واحدة من أكثر المجموعات العسكرية الخاصة الروسية نشاطا في السنوات الخمس الماضية، حيث اندمج أفرادها بشكل كبير في الشؤون الأمنية والاقتصادية في جنوب إفريقيا، ومنذ أول وصول لهم إلى تلك البلاد، بدأوا ببناء تأثيرهم ونفوذهم بشكل ملحوظ، حيث عملوا بشكل مستقل عن موسكو في كثير من الأحيان وساعدوا في تعزيز النفوذ الروسي في القارة الإفريقية.

لكن مع وفاة يفغيني بريغوجين، يبدو أن هناك تغييرات كبيرة تحدث في هيكلة المجموعة وسياستها، حيث تشير الدلائل إلى أن الحكومة الروسية تعمل على استعادة السيطرة المباشرة على أكثر من ألفٍ من المرتزقة الروس هناك، وذلك من خلال شركة جديدة تحمل اسم “ريدوت”، هذه التطورات تُلقي الضوء على دور روسيا في إفريقيا وتوجيهها للنفوذ في المنطقة بشكل مباشر.

شبكة من الشركات الأمنية الروسية

منذ محاولة الانقلاب التي قام بها بريغوجين في يونيو/حزيران الفائت، وما تلاها من وفاةٍ في حادث تحطّم طائرة خارج موسكو بعد شهرين فقط، انخرطت روسيا مندفعة لتثبت إمبراطوريته في القارة الإفريقية، والتي تضم آلاف المقاتلين، ومجموعة واسعة من الأعمال التجارية، ومبادرات القوة الناعمة المتعددة مثل تولّيه دعم المركز الثقافي الروسي هناك. 

بينما يحاول “الكرملين” وضع أذرعه حول شبكة “فاغنر” التجارية المترامية الأطراف، فإن الخطوة التالية للمجموعة لا تزال غير واضحة؛ لكن العلامات التي قد يحملها المستقبل في جمهورية إفريقيا الوسطى، وهي واحدة من أولى الدول العميلة للمنظمة ومختبرها في القارة، بدأت تظهر في بانغي، وهنا يبدو أن روسيا تعمل على تعزيز عمليات “فاغنر” مع الاستمرار في ممارسة نفوذها، ويبدو أن الرسالة التي تريد موسكو إيصالها هي؛ أن الأمور تسير كالمعتاد. 

رغم أن “فاغنر” لا تعترف رسميا بارتباطها بالحكومة الروسية، إلا أن هناك العديد من الأدلة التي تشير إلى أنها تتلقى دعما ماليا ولوجستيا وسياسيا من موسكو، وما يؤكد ذلك هو تحرك الحكومة الروسية للسيطرة المباشرة على “فاغنر”، وإعادة تنظيمها تحت شركة جديدة اسمها “ريدوت”، وهي شركة أمن خاصة أخرى تأسست عام 2008، وهي في الواقع واجهة للمخابرات العسكرية الروسية “غرو”، وتهدف إلى تحويل “فاغنر” إلى قوة عسكرية خاصة تابعة للدولة.

هذه العملية بدأت بالفعل في جمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا، حيث يوجد أكثر من 5 آلاف من المرتزقة الروس، يقومون بتدريب الجيش وحماية الرئيس والمنشآت الحيوية والموارد الطبيعية، وكانت عبر زيارة نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف في 22 آب/أغسطس الفائت، وأعلن بشكل ضمني عن تحول “فاغنر” إلى “ريدوت”، وأكد على التزام روسيا بالشراكة مع جمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا.

روسيا تعتمد على الشركات الأمنية الخاصة لتنفيذ أجندتها في مناطق النزاع والصراع حول العالم، حيث تستخدمها كوسيلة للتدخل دون تحمّل المسؤولية أو المخاطرة بالتصعيد. هذه الشركات تقوم بمجموعة من المهام التي تتعلق بالقتال، والأمن، والمخابرات، والاستخراج الموارد، وبسط النفوذ الروسي.

من سيكون له حصة الأسد من “التركة”؟

لا يوجد رقم دقيق لعدد الشركات الأمنية الخاصة التي تعتمد عليها روسيا في تنفيذ أجندتها خارج أراضيها، لأنها غير قانونية بموجب الدستور والقانون الروسي، وتعمل بشكل سرّي وغامض؛ ولكن بعض التقارير تشير إلى أن هناك عشرات من هذه الشركات، تضم آلاف المقاتلين المحترفين من خلفيات عسكرية وأمنية مختلفة، ومن بين هذه الشركات، كانت مجموعة “فاغنر”، التي تُعتبر أكثرها شهرة وفعالية وانتشارا في العالم وحاليا برز اسم “ريدوت”.

طبقا لما هو متداول في المصادر المفتوحة، فإن “ريدوت” أو عُرفت سابقا باسم “شيلد”‏، هي شركة عسكرية وأمنية روسية خاصة، التي تُعد جزءا من “عائلة مكافحة الإرهاب” التي أسسها “الكرملين”، وهي عائلة مكوّنة من شركات عسكرية وأمنية خاصة تحمل أسماء مشابهة تحمي العمليات التجارية للشركات الروسية، وحاليا فإن الشركة وكغيرها من الشركات الروسية العسكرية الخاصة تشارك في الحرب الروسية الأوكرانية.

هذه الشركة أُسست عام 2008 لتكون دمجا لعدّة مجموعات مخضرمة صغيرة من جهاز المخابرات الخارجية الروسي، والقوات الجوية الروسية، ووحدات وزارة الدفاع الروسية الذين حصلوا على خبرة قتالية في المهام العسكرية ومهام حفظ السلام.

المجموعة يملكها رجل الأعمال الروسي والملياردير “غينادي نيكولافيتش تيموشينكو”، ويملك مجموعات عملاقة بينها مجموعة “فولغا” وشركة “جوفنور”، والعديد من الشركات الأخرى، إضافة الى حصص في شركة الغاز “نوفاتيك” ومنتج البتروكيماويات “سيبور هولدنغ”.

علاقة هذه الشركات بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، غير رسمية وغير مباشرة، لكن هناك العديد من الأدلة التي تشير إلى أنها تتلقى دعما ماليا ولوجستيا وسياسيا من موسكو، وخاصة من رجال أعمال مقربين من بوتين، مثل الجنرال الروسي، سيرغي سوروفكين، الذي اختفى بعد انقلاب “فاغنر” وظهر مؤخرا على الأراضي الجزائرية.

في 24 شباط/فبراير 2023، تم تصنيف “ريدوت” كقوة مرتزقة روسية تسيطر عليها وترتبط بها الاستخبارات العسكرية الروسية، وذلك من قبل وزارة الخزانة الأميركية، التي أصدرت بحقها عقوبات وفقا للأمر التنفيذي “E.O. 14024” الصادر عن الولايات المتحدة ومصادرة أملاكها في الولايات المتحدة.

لماذا “ريدوت” حصرا؟

الأكاديمي والخبير في الشأن الروسي، ألكسندر ستروكانوف، أوضح لـ”الحل نت”، أنه في الوقت الحالي، تسعى روسيا بكل جهد للحفاظ على نفوذها وأصولها في جنوب إفريقيا وليبيا، وذلك من خلال المحافظة على وجودها العسكري ودعمها لحلفائها داخل “الجيش الوطني” الليبي، وخاصة بعد التوسع الكبير لتركيا وسيطرتها على ميناء الخمس الليبي، وبالنظر إلى التحول الحالي من “فاغنر” إلى “ريدوت”، يمكن اعتبارها خطوة استراتيجية تهدف روسيا من خلالها إلى تحقيق توازن بين الحفاظ على نفوذها وتقليل التوترات الدولية.

هذا التحول يأتي استنادا إلى تقدير روسيا لضرورة تقليل تعرضها ومسؤوليتها عن أنشطة “فاغنر”، فقد واجهت روسيا انتقادات وإدانات دولية واسعة بسبب تلك الأنشطة التي اعتُبرت انتهاكات لحقوق الإنسان والقوانين الدولية، وفي المقابل، تسعى روسيا من جهة أخرى إلى الحفاظ على إمكانياتها العملية ومرونتها في إفريقيا، وذلك من خلال استخدام “ريدوت” كوكيل يمكّنها من حماية مصالحها والتدخل إذا اقتضت الضرورة.

من خلال التحول من “فاغنر” إلى “ريدوت” بحسب ستروكانوف، تسعى روسيا إلى تجنب أو تخفيف بعض العقوبات والضغوط الدولية التي كانت تواجهها سابقا، حيث تتيح لها “ريدوت” وضعا أكثر شرعية وقانونية كشركة أمنية مقرها في روسيا، كما تتميز “ريدوت” بالمزيد من المسؤولية والاحترافية مقارنة بـ “فاغنر”، فضلا عن هيكلها وإدارتها الرسمية والمنظمة، ولذا تعتمد روسيا على “ريدوت” في العديد من السياقات، مما يجعلها أكثر تأثيرا واستدامة في مختلف الأوضاع والأماكن.

الجزار يتولى المهمة

على الرغم من تمرد “فاغنر” الفاشل ومقتل بريغوجين على بُعد آلاف الأميال إلى الشمال عن عناصره، لم يتغير الكثير بالنسبة لمرتزقة روسيا وعلاقتهم بالدول التي ينشطون فيها، فبالنسبة لهم لا يهم القائد، والمهم هو استمرار استغلالهم للموارد الطبيعية وجني الأموال.

الاعتماد على سوروفكين والمعروف باسم “جنرال القيامة” و”جزار سوريا”، جاء لبطشه وقوته في السيطرة على من تتخوف روسيا من تمردهم، فبحسب ستروكانوف، ليس من المستبعد أن تكون هناك إعدامات ميدانية لبعض عناصر “فاغنر” المتمردين أو الميليشيات التي تتبعها كـ”صائدو الدواعش” في سوريا.

بالنسبة للقيادة الروسية، جميع المنتمين للشركات الأمنية الخاصة سواء المعترف فيها داخل موسكو أو غير المعترف بها، هم عبارة عن مرتزقة يتقاضون الأموال من أجل تنفيذ أجندتها، وعندما يحين الوقت فأمر التخلص منهم يصدره بوتين وهو يشرب كأس الشاي الأخضر، لأن العقلية السياسية الروسية وحتى السوفيتية السابقة تفسّر كلمة لا بالخيانة.

بهذا السياق، فإن مصير المرتزقة الروس الذين كانوا يعملون تحت قيادة بريغوجين قبل وفاته يختلف باختلاف المنطقة التي يعملون فيها، ففي جمهورية إفريقيا الوسطى، معظم المرتزقة سيلتحقون بشركة “ريدوت”، بعد أن يخضعوا لإجراءات التحقق من هوياتهم وخبراتهم. 

أما في ليبيا، يعتقد ستروكانوف أن المرتزقة ما زالوا يدعمون الجنرال خليفة حفتر، وينتظرون تعليمات جديدة من موسكو. وفي سوريا، فإن مهمة “فاغنر” وشركائها الاستمرار في القتال إلى جانب الجيش السوري ضد المعارضة والجماعات المسلحة، وتلقي الدعم من القوات الروسية المتواجدة هناك.

طبقا لتحليل الأكاديمي الروسي، فإن مستقبل مجموعة “فاغنر” كشركة خاصة للأمن والدفاع غير مؤكد، فقد تواجه صعوبات في الحفاظ على هويتها واستقلاليتها بعد وفاة بريغوجين، وتحوّل جزء من عناصرها إلى شركة “ريدوت” أو إلى الجيش الروسي يعني أن “الكرملين” قرّر إنهاء أصولها كعقاب على ما افتعله زعيمها.

إلا أن المؤكد لدى ستروكانوف أن هناك تصاعدا للنفوذ الروسي في المناطق الإفريقية، فروسيا تسعى إلى تعزيز دورها في القارة السمراء، سواء عبر التعاون السياسي والثقافي أو عبر التدخل الأمني والعسكري، وتصرّ موسكو على استخدام شركات الأمن الخاصة كوسيلة للتأثير على الأوضاع في بعض الدول الإفريقية، مثل جمهورية إفريقيا الوسطى والسودان ومالي وموزمبيق، لأنه يؤدي إلى تصادم مع المصالح الغربية أو الصينية أو التركية في إفريقيا، لذلك يجب أن تبقى القيادة الروسية بعيدة عن هذا النزاع.

جميع الدلائل تشير حول انقسام داخلي في مجموعات المرتزقة التي تدعمهم روسيا وعدم اتفاقهم مع السياسات الروسية، إلا أن البيت الداخلي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا يُعير اهتماما لهؤلاء، ويرى منهم أدوات ومجسمات لتحقيق مصالحه، ومن يعارضه فإن مصيره سيكون في السماء كما حدث مع زعيم “فاغنر” وإنهاء امبراطوريته رغم تقديمه خدمات مميزة للدولة الروسية في العديد من دول العالم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات