منذ العقد الماضي، عاش العالم أوقاتا صعبة تحت تهديدات تنظيم “القاعدة” المتطرف الذي انبثق عن جماعة “الإخوان المسلمين”. فقد شهد هجمات إرهابية بشعة نفذت باسمه، أودت بحياة الآلاف وأحدثت دمارا هائلا في أنحاء متفرقة من العالم. لكن على مدى السنوات الأخيرة، تراجع تنظيم “القاعدة” إلى حدّ كبير، مع تركيز المجتمع الدولي على التنظيمات الأخرى مثل “داعش”.

مع ذلك، يبدو أن هناك تطورات جديدة تثير التساؤل عما إذا كان تنظيم “القاعدة” يسعى للعودة إلى الساحة العالمية كقوة قوية وبقيادة جديدة. خصوصا بعد تراجع نفوذ جماعة “الإخوان المسلمين” وتدهور مكانتها السياسية، ما يكوّن فرصة لتنظيم “القاعدة” للتمدّد والترويج لأجندته العسكرية والسياسية.

كانت جماعة “الإخوان” تحظى بدعم من التنظيم، وكانا يعملان سويا لتحقيق أهدافهما الإسلامية المتشددة. ولكن مع تراجع “الإخوان” في السنوات الأخيرة، يبدو أن تنظيم “القاعدة” يرى فرصة للانفصال عن الإخوان وتقديم نفسه كقوة سياسية وعسكرية مستقلة، وهنا يطرح السؤال حول التعديلات الهيكلية التي يسعى تنظيم القاعدة لتحقيقها للحصول على تأييد أوسع، وما التأثير المحتمل لعودة تنظيم “القاعدة” وصعوده على تيار الإسلام السياسي في المنطقة وخارجها.

علاقة “القاعدة” بتنظيم “الإخوان”

تم نشر وثائق سرية تتعلق بالزعيم السابق لتنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي آي أي”، ضمن مجموعة تضم حوالي 470 ألف ملف. تم الحصول على هذه الوثائق بعد الهجوم العسكري الذي نفذته القوات البحرية الأميركية في عام 2011، على المجمع الذي كان يتواجد فيه بن لادن في باكستان. وكشفت هذه الوثائق عن وجود علاقة بين تنظيم “القاعدة” وزعيمه السابق مع جماعة “الإخوان المسلمين”.

أسامة بن لادن الزعيم السابق لتنظيم "القاعدة" وعضو "جماعة الإخوان المسلمين" - إنترنت
أسامة بن لادن الزعيم السابق لتنظيم “القاعدة” وعضو “جماعة الإخوان المسلمين” – إنترنت

في إحدى هذه الوثائق، أشار أسامة بن لادن إلى علاقته بـ”الإخوان” وتأثيرهم عليه. وذكر بن لادن في مذكراته الشخصية التي كتبها بخط يده، أنه بدأ يفكر في الجهاد لأول مرة خلال فترة المرحلة الثانوية، مؤكدا أنه لم يكن لديه جهة توجيه محددة سوى جماعة “الإخوان المسلمين”.

بعد خلافة أسامة بن لادن في زعامة تنظيم “القاعدة” من قبل أيمن الظواهري، أكد الأخير في تسجيلات فيديو أن بن لادن كان عضوا في جماعة “الإخوان المسلمين”، وأن تنظيم “الإخوان” هو من قام بإرساله إلى باكستان خلال فترة الغزو السوفياتي في مهمة محددة.

حاليا وفي حين تتكبد جماعة “الإخوان” داخليا خسائر متزايدة وتفقد بعض الحلفاء الإقليميين، وتتراجع فرصها السياسية، قام تنظيم “القاعدة” المتشدد بإعادة تنظيم أفكاره واستراتيجيته، بهدف أن يصبح ممثلا فاعلا لتيار الإسلام السياسي، مع الحفاظ على جناحه العسكري الإرهابي وعدم التخلي عنه.

تنظيم “القاعدة”، الذي كان يعمل كذراع عسكري لجماعة “الإخوان”، بحسب صحيفة “العرب” اللندنية، يدرك أن تراجع الجماعة سيؤثر بشكل كبير على جناحه المسلح، ولا يمكن تجاهل ذلك. ولذا، فإنه يتعين عليه اتخاذ خطوات ضرورية لمنع انهيار التنظيم العسكري مع ظهور تراجع الواجهة السياسية التقليدية لجميع الإسلاميين، وهي “جماعة الإخوان”.

التنظيم يسعى حاليا للتفوق في مجال تيار الإسلام السياسي، وذلك بالانفراد بالمشهد القيادي. حيث يهدف إلى تولي زعامة هذا التيار، بعد أن يتخلص من حليفه السابق وذراعه التي وصفت سابقا بأنها “معتدلة”. وبهذا يكون التنظيم قادرا على تلبية الدورين بشكل مستقل، أي الجانب العسكري والجانب السياسي.

قادة التنظيم المتشدد يعتقدون أن هزائم وتعثرات جماعة “الإخوان” تُعد فرصة مواتية لطرح مشروع حكم إسلامي، مع إجراء تعديلات هيكلية تهدف إلى إقناع بعض القوى بصحة هذا المشروع واستقطاب الكثيرين الذين يشعرون بالانتقام من أداء الجماعة المتواضع والغاضبين من تشويه سمعة التيار الإسلامي السياسي.

من أفغانستان حتى إفريقيا

علاوة على ذلك، يرفض قادة تنظيم القاعدة فكرة سقوط مشروع الإسلاميين في السلطة، مؤكدين أن الفشل لا يمس إلا جماعة “الإخوان” بشكل خاص، وأن منهج القاعدة الذي يستند إلى رفض النظام الديمقراطي والتداول في السلطة، والحفاظ على حليف إسلامي مهيمن على الحكم كما في حالة “طالبان” في أفغانستان، هو الوسيلة المناسبة لإصلاح الأوضاع.

عناصر تنظيم "القاعدة" في سوريا - إنترنت
عناصر تنظيم “القاعدة” في سوريا – إنترنت

خلال خطبة الجمعة ألقاها أحد القادة في تنظيم “القاعدة”، هاني السباعي، من مقر إقامته في بريطانيا تحت عنوان “عزة وكرامة لطالبان وخزي لسلمية بنت أبيها”، أعلن الانتقال من مرحلة تمثيل “الإخوان” للإسلاميين إلى فترة حكم “القاعدة”، التي تتمتع بقوة عبر الحفاظ على السلطة بواسطة القوة العسكرية.

نسخة مختلفة من مشروع الإسلام السياسي في السلطة تسعى إلى توسيع نفوذها في عدة مناطق، مثل أفغانستان وشمال غرب سوريا ومناطق أخرى في إفريقيا. وتعتبر هذه النسخة وسطية بين جماعة “الإخوان” التي فشلت في إقناع القوى الغربية وتحقيق مصالح داعميها الإقليميين، وبين نموذج تنظيم “داعش” الذي تمت محاصرته بسبب وحشيته المفرطة وتهديده للأمن العالمي.

قادة النسخة الجديدة من تنظيم “القاعدة” يسعون إلى استعادة اهتمام الولايات المتحدة وكسب تعاطف القوى الغربية، أو على الأقل التخفيف من الضغط عليها. ويعمل هؤلاء القادة على المداهنة للفاعلين واكتساب تعاطف السكان المحليين لتبرير اتباعهم لتيار ديني متشدد يعارض الحكم المدني والقيم الليبرالية، ويسعون للوصول إلى السلطة والسيطرة عليها بالقوة العسكرية.

بعد أن أظهر تنظيم “القاعدة” عجزا عن الاستمرار في تصدر المشهد الإرهابي العالمي الذي يتجاوز الحدود خلال السنوات الأخيرة، وعدم تكرار هجمات كبيرة مثل تفجير السفارتين في نيروبي ودار السلام وتفجير المدمرة “كول”، عاد التنظيم إلى مرحلته الأولى كمجموعة جهادية محلية تتمحور حول الهدف الذي كان يسعى إليه في تسعينيات القرن الماضي.

تنظيم “القاعدة” يفضل البدء الآن في مشروعه المحلي بعد أن فشل في النصف الثاني من العقد الحالي، حيث تم هزيمته عسكريا في الجزائر ومصر وليبيا. ونجح أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في إقناع الأجنحة المحلية للجهاد التي تعرضت للهزيمة بالانضمام إلى مشروع جهادي عالمي يستهدف الغرب، من خلال تأسيس “الجبهة الإسلامية العالمية” لمحاربة اليهود والغرب.

لملمة بقايا “الإخوان”

بحسب حديث الخبير في شؤون الجماعات الإسلامية، كمال حبيب، لـ”الحل نت”، فإن قادة تنظيم “القاعدة” يستغلون تراجع “الإخوان” من أجل ترسيخ وجودهم عن طريق تقديم أنفسهم كقوة سياسية وعسكرية بديلة. ويستغلون هزائم “الإخوان” وفقدانهم للتأييد الإقليمي والتراجع السياسي ليعرضوا أنفسهم كممثلين لتيار الإسلام السياسي، وبذلك يسعون لاستعادة ود الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب.

استعراض لعناصر "الإخوان المسلمين" - إنترنت
استعراض لعناصر “الإخوان المسلمين” – إنترنت

تنظيم “القاعدة” يتخذ وفق حبيب، خطوات لتحقيق تمثيلية سياسية قوية عن طريق إعادة أوراقه. ويهدف قادته إلى أن يكونوا الزعماء البارزين في تيار الإسلام السياسي المنهار، وذلك من خلال الحفاظ على الجانب العسكري الإرهابي وتوسيع نشاطاتهم السياسية لكسب التأييد والولاء.

تعامل تنظيم “القاعدة” مع الجانب العسكري والجانب السياسي في تيار الإسلام السياسي من خلال تولي الصدارة في كلا الجانبين، يهدف إلى أن يكونوا القوة العسكرية والواجهة السياسية للتيار، مما يسمح لهم بتحقيق تأثير أكبر وسط الجماهير والحصول على دعم وتأييد واسع.

استراتيجية التنظيم للتربص بالفرص السياسية المتاحة نتيجة تراجع “الإخوان” بحسب حبيب، تتضمن تقديم مشروع حكم إسلامي يضم تعديلات هيكلية، بهدف جذب الناقمين والمتضايقين من أداء “الإخوان” وتلطيخ سمعتهم. ويهدفون إلى استغلال الفراغ السياسي وتوجيه التيار الإسلامي نحوهم.

التعديلات الهيكلية التي يسعى تنظيم “القاعدة” لتحقيقها تشمل تعزيز التنظيم الداخلي وتوسيع شبكة العناصر والتواجد في المناطق المختلفة. ويعملون على بناء قدراتهم العسكرية والسياسية وتعزيز قدرتهم على توفير الأمن والخدمات للجماهير المحلية سواء في أفغانستان أو في شمال غربي سوريا.

التحولات مقتصرة على التكتيكات المؤقتة

عودة تنظيم “القاعدة” وصعوده على تيار الإسلام السياسي قد يؤدي إلى تصاعد التوترات والعنف في المنطقة وخارجها، طبقا لما يراه حبيب، إذ قد يزيد من التطرف والإرهاب ويؤثر على الاستقرار الإقليمي والعلاقات الدولية.

أسامة بن لادن الزعيم السابق لتنظيم "القاعدة" يمين وخليفته أيمن الظاهري يسار - إنترنت
أسامة بن لادن الزعيم السابق لتنظيم “القاعدة” يمين وخليفته أيمن الظاهري يسار – إنترنت

ردة الفعل القوى الإقليمية والدولية تجاه تحركات ومحاولات تنظيم “القاعدة” تأثير في المشهد السياسي قد تتضمن تكثيف التعاون الأمني وتبادل المعلومات وزيادة الجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب، وقد تتم مراقبة نشاطاتهم واتخاذ إجراءات لعزلهم وتقليل تأثيرهم، حسب حديث حبيب.

في سياق ضعف “الإخوان”، يعمل قادة تنظيم “القاعدة” على إعادة هيكلة التنظيم وتعزيز قدراته، بهدف تحقيق هدفهم النهائي، وهو إقامة دولة “خلافة إسلامية” تنشر تأثيرها في عدة دول. ويرى قادة التنظيم أن هزائم “الإخوان” وتراجعها توفر فرصة لتقديم مشروع حكم إسلامي يحظى بدعم وولاء العديد من الناس المستاءين من الأوضاع الراهنة.

التخوف الرئيسي يستمر من أن تظل هذه التحولات مقتصرة على التكتيكات المؤقتة، نظرا لعجز تنظيم “القاعدة” عن تنفيذ عمليات دولية تتجاوز الحدود. إذ يُعتبر من الصعب تكرار هجمات في العالم الغربي والأميركي وفي مناطق بعيدة في العالم، مثلما حدث في نيويورك وتفجيرات بالي في إندونيسيا ومحطات القطارات في لندن.

لن يستغرق الكثير من الوقت حتى يتحول تنظيم “القاعدة” مرة أخرى إلى مشكلة عالمية. فبعد أن تتشكل على مدى السنوات القادمة نماذج محلية قوية ومدربة بشكل جيد، فإنها لن تتردد في التوحد تحت إطار خلافة عالمية. فليس تنظيم “القاعدة” أكثر اعتدالا من “داعش”، حتى ولو توقف عن استخدام العنف ضد السكان المحليين وصور نفسه كجهة تقدم حلولا للمشكلات؛ بل يظل أكثر حذرا حيث يؤجل خططه الكبرى حتى يتمتع بوضع أفضل، والفارق بينهما ليس في المنهجيات والأهداف النهائية، بل في التكتيكات والإطار الزمني.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات