بعد أن مثل أولى محطات نفوذ روسيا في القارة الإفريقية، يبدو أن مالي عادت لتتحول إلى أولى الحلبات التي تخسر النزال فيها، بالنظر لعجزها عن الرّد على الخطوات الأميركية التي أعلنت عنها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، أمس الاثنين، بفرض عقوبات على مسؤولين مرتبطين بمجموعة مرتزقة “فاغنر” الروسية، في دولة مالي، كانوا يعملون على توسعة نفوذ المجموعة التي قادت تمدد النفوذ الروسي في القارة السمراء.

الولايات المتحدة الأميركية قالت، إن عقوبات شملت 3 مسؤولين في دولة مالي يزعم أنهم على صلة وثيقة بمجموعة “فاغنر”، وذلك في الوقت الذي اتهمت فيه منظمة “هيومن رايتس ووتش” القوات المسلحة المالية ومقاتلين تابعين للمجموعة الروسية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إذ إنها متورطة بإعدام عشرات المدنيين.

المسؤولون الثلاث الذين شملتهم العقوبات الأميركية عملوا بشكل وثيق مع “فاغنر” لتسهيل وتوسيع وجود المجموعة الروسية في مالي منذ كانون الأول/ديسمبر 2021، وفق ما جاء في بيان نُقل عن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قوله، بأن بلاده ستواصل اتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين يسهّلون أنشطة مجموعة فاغنر المزعزعة للاستقرار، والتي تشكّل تهديدا للسلام والأمن في مالي والمنطقة بأسرها.

عقوبات ضد النافذات الروسية في ضوء دعم إنساني

الوزير الأميركي، شدد على أن الولايات المتحدة، بصفتها أكبر مانح للمساعدات الإنمائية والإنسانية لمالي، فإنها تدعم شعب مالي في تطلعاته إلى السلام والازدهار والديمقراطية، في حين وجّهت “هيومن رايتس ووتش”، اتهامات للقوات المسلحة المالية ومقاتلين أجانب تابعين لمجموعة “فاغنر” بإعدام عشرات المدنيين وسط مالي منذ كانون الأول/ديسمبر 2022، خلال عمليات لمكافحة المسلحين.

هذه الانتهاكات التي تُتهم بها القوات المالية بمعية عناصر “فاغنر”، ارتكبت خلال عمليات عسكرية نُفذت ردّا على تواجد جماعات مسلحة في قرى وينكورو وسيغيلا وسوسوبي وتيوفول، وفي منطقتي موبتي وسيغو في الوسط، وفقا لـ “هيومن رايتس ووتش”، التي نددت بحالات تعذيب معتقلين، وتدمير ونهب ممتلكات مدنيين. 

مالي تُعد آخر دولة بغرب إفريقيا جذبت قوات “فاغنر” الروسية للعمل على أراضيها ضمن مهمة تدريب الجيش ومحاربة التنظيمات المسلحة، ففي نهاية العام 2021 وقّعت باماكو ومجموعة شركة “فاغنر” الروسية للخدمات الأمنية الخصوصية، اتفاقا لإرسال نحو 1200 جندي لتدريب الجيش المالي مقابل حصول الشركة على مبالغ تصل إلى 10 ملايين دولار شهريا.

ذلك جاء بعد بدء انتشار النفوذ الروسي بشكل علني وعسكري في إفريقيا عندما لجأ رئيس إفريقيا الوسطى فوستان آرشانج تواديرا، في العام 2017، إلى موسكو من أجل تأمين الأسلحة والمدرّبين العسكريين لتعزيز جيش جمهورية إفريقيا الوسطى، وهو ما مهّد لنجاح مجموعة “فاغنر“، عام 2020، في دعم بقاء تواديرا في الحكم، بعد محاولة تحالف متمرد للإطاحة بنظامه مما عزز فرصة النفوذ الروسي في إفريقيا الوسطى.

على هذا الأساس، فإن تمكّن “فاغنر” من ترسيخ وجودها في إفريقيا الوسطى، فتح شهية موسكو لتوسيع دائرة نفوذها، فتكرّرت التجربة في مالي، عقب انقلاب الكولونيل أسيمي غويتا في العام 2020، من خلال دعم روسيا لـ “المجلس العسكري” الحاكم في باماكو بالأسلحة، ووجود مرتزقة “فاغنر“، لتصبح بوركينا فاسو بانقلاب تراوري أقرب للخضوع للنفوذ الروسي.

غير أنه وعلى ما يبدو، أن التصدع الحاصل في القيادة الروسية، وتشتت الموقف نتيجة المأزق الذي دخلته روسيا بقرار الرئيس فلاديمير بوتين، بالحرب ضد أوكرانيا، وما تسبب عنه مؤخرا من تمرّد عسكري لجماعة “فاغنر” ضد القيادة العسكرية الروسية، دفع بالولايات المتحدة الأميركية للعمل على الحد من النفوذ الروسي في القارة الإفريقية، بدءا بمالي.

خيارات أخرى إلى جانب تأثير العقوبات

تعليقا على ذلك، يقول الخبير في الشؤون الإفريقية باسل ترجمان، إن استمرار الولايات المتحدة الأميركية في استخدام سلاح العقوبات وحده على أنه السلاح الرادع للنفوذ الروسي والصيني في القارة الإفريقية، ربما لن يكون كافيا لتحقيق النتائج المطلوبة، بالرغم من أن هذه العقوبات نجحت نسبيا في تقليص نفوذ بعض الدول.

اتهامات لقوات “فاغنر” بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في مالي/ إنترنت + (AFP)

خصوصا وأن “توغل النفوذ الروسي والصيني في القارة الإفريقية لم يكن نتيجة لقدرتها وإمكانياتها، وإنما هو استثمار في متغيرات دولية، تركت واشنطن خلالها بعض الأخطاء في تعاملاتها مع الدول الإفريقية”.

على هذا النحو، أشار ترجمان في حديث مع موقع “الحل نت”، إلى أن روسيا والصين استغلّتا هذه الأخطاء للتوغل في إفريقيا، وليس قوتهما التي مكّنتهما من ذلك، بالتالي فإنه على الولايات المتحدة الأميركية إعادة النظر بسياستها، وعدم الاعتماد بشكل كبير على العقوبات كخيار أساسي، واللجوء إلى تنويع السياسات في التعامل مع الدول الإفريقية للعب دور في القارة.

ترجمان لفت إلى أن الملف المالي معقّد جدا، ويرتبط في علاقته بملف الجماعات الإرهابية في شمال مالي، ومنطقة غرب إفريقيا التي تشهد كثيرا من النزاعات والخلافات جراء تركيبة عرقية صعب التعامل معها، لذلك ولتجنّب أي ارتدادات ضد الولايات المتحدة الأميركية، فلا بدّ من إيجاد طرق أخرى للتعامل مع هذا الملف، إلى جانب العقوبات التي إذا ما تمّ الاعتماد عليها قد يولّد ردودا لا تخدم المصلحة الأميركية.

الخبير في الشأن الإفريقي، نوّه إلى ضرورة إبعاد الولايات المتحدة الأميركية، خيار التعامل العسكري والعقوبات الاقتصادية مع الملف الإفريقي، والعمل على المساهمة الاقتصادية في دعم وتنمية اقتصاديات تلك الدول، وتحسين الأوضاع الحياتية فيها، مؤكدا أن من يريد أن يكون له دور فاعل في قادم الأيام وفي مستقبل القارة الإفريقية؛ فعليه الاهتمام بالجانب الاقتصادي والاستثماري في تلك الدول.

بيد، أن العقوبات الأميركية التي فرضت على المسؤولين الماليين، تأتي في وقت تؤكد على ضعف الموقف الروسي، وعلى استعداد الولايات المتحدة الأميركية لمسك الملف الإفريقي من جميع جوانبه، بما يمثّله من وسيلة ضغط لا شك ستدفع تدريجيا أصحاب القرار في مالي، وكل  الدول التي على شاكلتها، للابتعاد عن التعامل مع روسيا وفتح الباب أمام الجانب الأميركي كشريك استراتيجي.

مطامع روسيا في مالي

وسط ذلك، وبينما أبدت “هيومن رايتس ووتش” موقفها من القوات المالية والتدخلات الروسية  في مالي، فإن هذه الاتهامات تأتي في أعقاب تقرير آخر نشرته المنظمة في 13 تموز/يوليو، يستنكر مضاعفة الجماعات المسلحة “جرائم القتل” و”الاغتصاب” و”النهب” على نطاق واسع بحق مدنيين في شمال شرق مالي.

واشنطن تفرض عقوبات على مسؤولين عملوا مع “فاغنر” في مالي/ إنترنت + وكالات

المنظمة غير الحكومية، كانت قد نقلت شهادات 40 شخصا تمت مقابلتهم وتحدثوا عن تورط رجال أجانب مسلحين، لا يتكلمون الفرنسية، ووصفهم بأنهم “بيض”، “روس” أو “ينتمون إلى فاغنر”، مشيرة إلى أنه تم العثور على ثماني جثث في أعقاب هجوم شنّه في 3 شباط/فبراير مقاتلون أجانب “بيض” يرتدون زيا عسكريا على قرية سيغيلا، أدى إلى عمليات ضرب، ونهب، واعتقال 17 شخصا أخرين.

ليس ذلك فحسب، ففي هجوم آخر في وينكورو، قُتل ما لا يقل عن عشرين مدنيا بينهم امرأة وطفل يبلغ حوالي ستة أعوام خلال عملية عسكرية نفذها جنود ماليون وأجانب “بيض”، بحسب المنظمة غير الحكومية، التي ردّت الحكومة المالية على مزاعمها، بأنها لم تكن على علم بأي انتهاكات لحقوق الإنسان، لكن المدعي العام في البلاد فتح تحقيقا قضائيا في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكنها سُجلت ضد مجهول.

أعقب ذلك اتهامات وجهتها “الأمم المتحدة” في تقرير نشرته في أيار/مايو الماضي، إلى الجيش المالي ومقاتلين “أجانب”، بقتل 500 شخص على الأقل، في آذار/مارس 2022، في عملية مناهضة للمسلحين في وسط البلاد. 

هذا وتشهد مالي أزمة أمنية عميقة منذ عام 2012، تغذيها جماعات مسلحة وانفصالية أو جماعات للدفاع الذاتي، وقد بدأت في الشمال وامتدت إلى وسط البلاد ثم إلى بوركينا فاسو والنيجر المجاورتين، وما ساعد في تأجيجها هو النفوذ الروسي المتّهم بسلب الموارد الإفريقية، لاسيما في مالي.

ففي مالي أثارت شركة “فاغنر” جدلا واسعا حين جلبت خبراءً للتنقيب عن المعادن النفيسة جنوب البلاد، حيث قامت بمساعدة السلطات المحلية بتهجير السكان المحليين لإخلاء المنطقة من أجل بدء عمليات التنقيب عن الذهب الذي يبلغ الإنتاج الصناعي منه 63.4 طن، فيما يبلغ الاحتياطي منه 800 طن، حيث تُعدّ مالي ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا بعد غانا وجنوب إفريقيا، كما تمتلك مخزونا من اليورانيوم والمنغنيز والليثيوم والحديد، وتُعد ولاية ميناكا في الوسط من أغنى المناطق بالمواد الخام.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات