بشكل غير مفاجئ، وقّع اليوم الخميس، رئيس جمهورية كاراباخ مرسوما بحل الجمهورية ومؤسساتها اعتبارا من مطلع عام 2024، ودعا سكان الإقليم الموجودين داخله وخارجه إلى التعرف على شروط الاندماج داخل أذربيجان.

منذ 19 أيلول/سبتمبر الجاري، أعلنت القوات العِرقية الأرمينية في إقليم ناغورنو كاراباخ عن وقف إطلاق النار، بعد مرور 24 ساعة على شنّ الجيش الأذربيجاني هجوما في المنطقة وسيطرته على أكثر من 60 موقعا، حيث نصّ الاتفاق على نزع سلاح الجيش المحلي بالكامل وانسحاب أي قوات أرمينية، في أكبر عملية عسكرية يُعتقد أنها تتجاوز الدولتين الجارتين، لتصبح صراع نفوذ وحرباً بالوكالة بين قوى مختلفة في تلك المنطقة.

منطقة كاراباخ الجبلية، التي تقع في أراضي أذربيجان، ولكنها تحت سيطرة أرمينيا منذ عام 1994، شهدت اندلاع حرب غير مسبوقة بين البلدين، والتي أسفرت عن مئات القتلى والجرحى والنازحين، وتدمير البنية التحتية والمنشآت المدنية والثقافية، وهذه الحرب، التي تُعد الأعنف منذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى النزاع السابق بين البلدين، لا تمثّل فقط صراعا محليا على إقليم متنازع عليه، بل تعكس أيضا تحولات جيوسياسية و جيواستراتيجية كبيرة في المنطقة، وتؤثر على مصالح ومواقف القوى الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة.

الصراع بين أرمينيا وأذربيجان لا شك أنه يزلزل ميزان القوى في المنطقة، ويجعلنا نتساءل عن القوى الإقليمية الكبرى مثل تركيا وإيران وروسيا، إذ ما نشهده اليوم بين أرمينيا وأذربيجان ليس مجرد صراع إقليمي عابر للزمان، بل هو حدث يمكن أن يتسبب بتغييرات جذرية في خريطة القوى الإقليمية والعالمية، إذ إنها معركة تتجاوز الحدود الجغرافية لكاراباخ الجبلية وتلامس أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.

الكعكة التي يتقاتل عليها أساطير آسيا

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ذكر الثلاثاء الفائت أن إيران أرسلت إشارات إيجابية حول الخطط التركية الأذرية المشتركة لإنشاء ما يسمى بممر زانجيزور الذي يربط منطقة ناختشيفان الأذربيجانية المتاخمة لتركيا بالبر الرئيسي لأذربيجان عبر مقاطعة سيونيك الجنوبية الأرمنية.

في حديثه خلال طريق عودته من جيب ناختشيفان الأذربيجاني، أكد أردوغان عزم بلاده على إنشاء الممر الذي تسعى أنقرة من خلاله إلى تعزيز علاقاتها التجارية مع أذربيجان وآسيا الوسطى، وذلك بعد معارضة إيران في الماضي للخطة على أساس أنها ستقطع طرق النقل التي تربط أراضيها بأرمينيا.

من الواضح أن لا أحد يرغب في معالجة الصراع الجيوسياسي العميق الذي يكمن وراء الصراع في إقليم كاراباخ، والذي اندلع مؤخرا واحتل الصفحات الأولى في مختلف أنحاء العالم، فالقصة تمتد لعقود حول جيب محلي في منطقة معزولة بشدة، ولكن لها تداعيات أوسع من حيث توازن القوى العالمية.

ما ليس بالحسبان أن هذا الصراع يؤثر على الصين أو أوروبا أو الشرق الأوسط، وقد يبدو هذا الأمر خياليا، لكن ما يحدث بين أرمينيا وأذربيجان، حتى السيطرة على منطقة كاراباخ الجبلية على وجه التحديد، من المحتمل أن يؤدي إلى تغيير التحالفات البعيدة بين القارات، وربما ستكون أزمة إقليمية تتسع أكثر فأكثر.

تركيا تريد لأذربيجان الانتصار لسياستها التوسعية ولم شمل الدول الناطقة بالتركية من أجل خنق قطبي آسيا، وإيران تعارض وتدعم أرمينيا، فيما يعتقد “الكرملين” أنه يستطيع السيطرة على الدول التركية بشكل أفضل من خلال التواطؤ مع قادة وأنظمة ما بعد الاتحاد السوفييتي لخلق ثروة متبادلة.

في حين أن الصين، وبالمثل ترى أنها تستطيع أن تفعل الشيء نفسه من خلال المساعدة في تشكيل “الممر الأوسط” عبر مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقتها بكين، وعلى الرغم من أن ذلك من شأنه أن يكسر الحصار الروسي الصيني الإيراني، وكما يتدفق النفط الروسي عبر باكو، فإن البضائع الصينية سوف تتدفق عبر آسيا الوسطى إلى العالم، وسوف تعتمد الجمهوريات التركية اقتصاديا على بكين. 

إلا أن تحول جمهوريات آسيا الوسطى الخمس الكبرى تدريجيا إلى الديمقراطية، وتوسعها اقتصاديا وترابطها معا بشكل مقصود لتجنب أنواع جديدة من الاعتماد على القوى المهيمنة القريبة، يربك أكبر أقطاب آسيا، ويشي بأن الظروف الحالية هي مقدمة لتغييرات كبيرة في المنطقة.

بداية صراع جديد بين تركيا وإيران

عبر نظرة فاحصة على خريطة كاراباخ، يتبين أنه نتوء من جبال القوقاز داخل أذربيجان يصل في أقصى حد، إلى مسافة كافية جنوبا ليلامس الحدود مع إيران، ومن الناحية اللوجستية، فإن من يسيطر على مرتفعات كاراباخ في أذربيجان من المحتمل أن يهيمن على هذا الجزء الحساس من الحدود، وهو ما يقدم دليلا على أن إراقة الدماء المستمرة منذ عقود هي من أجل الهيمنة الجيوسياسية.

حكاية كلها تتمحور حول الممرّين، الأول ممر زانجيزور الممتد على طول تلك المنطقة الحدودية بين إيران وأذربيجان، والتي تطل عليها جبال كاراباخ، ويمر الممر بعد ذلك عبر قطعة من الأراضي الأرمينية، وبالتالي يربط أذربيجان مباشرة بتركيا، وهو اتصال مقطوع تهدف أنقرة إلى استعادته.

أما الممر الآخر، هو ما يسمى “الممر الأوسط ” الذي من شأنه أن يربط الجمهوريات التركية في آسيا الوسطى بتركيا عبر أذربيجان، نتحدث هنا عن السكك الحديدية والطرق، وخطوط أنابيب الوقود المختلفة، التي يمكنها إحياء طريق الحرير التجاري القديم الذي قطعته موسكو قبل قرنين من الزمان في عهد القياصرة.

تركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان المعروفة أيضا باسم “سي 5″، حاليا هذه الكتلة بأكملها مطوقة فعليا من قبل روسيا والصين وإيران، وتحتاج هذه الدول إلى المرور عبر تلك البلدان للوصول إلى العالم، لبيع المواد الخام التي تشمل كميات استراتيجية من الذهب والغاز والنفط، ولكن بمجرد إضافة أذربيجان وتركيا جغرافيا، ينكسر الحصار الضمني، لأن الأرمن هم العائق الجغرافي الوحيد.

تركيا تسعى عبر التحولات الكبيرة المتوقعة في المنطقة نتيجة للحرب بين أرمينيا وأذربيجان، من تعزيز موقع أذربيجان كقوة إقليمية وشريك اقتصادي واستراتيجي للدول الأخرى، خاصة إسرائيل والتي ساعدتها في الحرب بتزويدها بالسلاح والدعم اللوجستي والمعلوماتي.

كما تريد أن تضعف موقع أرمينيا وتزيد من عزلتها ومشاكلها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتثير الاحتجاجات والمطالبات بإسقاط الحكومة الحالية، والتي تتهم بالخيانة والفشل في الدفاع عن المصالح الوطنية، من خلال تغيير الوضع القانوني والإداري لإقليم كاراباخ، والذي أصبح تحت سلطة أذربيجان، وتقليص النفوذ الأرميني فيه، من أجل ضرب إيران وروسيا من جهة، وقطع طريق الصين نحو أوروبا من جهة أخرى.

 تهديد جديد لإيران والصين وروسيا

بطبيعة الحال، الأمر الأكثر أهمية من شقّ طريق تجاري مستقل، هو أن الارتباط الجديد من شأنه أن يخلق عودة ثقافية وهوية لـ “الوحدة التركية” بعد أن ظلت خاملة لعدة قرون، وإذا بدأت الكتلة التركية في التماسك والعمل بشكل منسّق، فسوف يبرز تهديد جديد لإيران وروسيا والصين، ناهيك عن أرمينيا. 

في الصين، سيشعر الأتراك الإيغور بالجرأة، وفي روسيا، قد تبدأ العديد من المناطق التركية من تتارستان إلى بورياتيا في الانفصال، وستشعر إيران، قبل كل هذه الدول، بالتهديد لأن سكان إقليمها الأذربيجاني، سيرغبون في الاتحاد مع أبناء عمومتهم في الشمال الذين لديهم دولة خاصة بهم. 

الخبير الأذربيجاني في العلاقات الدولية، أديغوزل مامادوف، أوضح لـ”الحل نت”، أن مخاطر الحرب بين أرمينيا وأذربيجان ستمتد إلى مناطق أخرى، بما في ذلك الصين، وذلك لعدة أسباب، منها أن الصين تُعتبر شريكا اقتصاديا واستراتيجيا مهما لأرمينيا، وتشارك في مشاريع الطاقة والنقل والتجارة والاستثمار في المنطقة، وتربطها بمبادرة “الحزام والطريق”، والتي تهدف إلى توسيع النفوذ الصيني في آسيا وأوروبا .

 الصين تحاول الحفاظ على علاقات جيدة مع كلا الطرفين، وتدعو إلى حل النزاع بالطرق السلمية والحوار والتفاوض، لكنها تواجه تحديات ومخاطر في المنطقة، مثل تدخل القوى الأخرى كتركيا، والتي تحاول منع تمدد النفوذ الصيني وتعزيز مصالحها الخاصة.

لذلك، فإن الصراع بين أرمينيا وأذربيجان بحسب مامادوف، سيؤثر على العلاقات بين إيران وتركيا وروسيا، وينشأ عنه تهديدات جديدة، مثل أن إيران ستواجه صعوبات في موازنة موقفها بين الطرفين، فهي تربطها علاقات تاريخية ودينية وثقافية واقتصادية مع أرمينيا، وتدعمها في الصراع، ولكن تربطها أيضا علاقات جيوسياسية وجيو استراتيجية مع أذربيجان، وتخشى من تأثير الصراع على أمنها القومي واستقرارها الداخلي، خاصة في المناطق التي تقطنها الأقليات الأذرية والأرمينية.

 تركيا هي الأخرى تعتبر نفسها حليفا وشريكا استراتيجيا لأذربيجان، وتدعمها عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا في الصراع، وتطالب بانسحاب القوات الأرمينية من الأراضي الأذرية، وترفض أي حلّ لا يحقق هذا الهدف، وتعبّر عن رفضها لأي وساطة أو تدخل من جانب روسيا أو إيران أو الاتحاد الأوروبي.

زلزال في ميزان القوى الإقليمي

بلا شك، الصراع يعكس تغيرا في موازين القوى العسكرية والسياسية بين الطرفين، حيث تمكنت أذربيجان من تحقيق انتصارات ميدانية واستعادة السيطرة على معظم الأراضي التي تريدها، بفضل الدعم العسكري والتكنولوجي من تركيا وإسرائيل، والتي أظهرت قدرتها على تجاوز الدفاعات الأرمينية، وخاصة الطائرات المسيرة والصواريخ الذكية.

علاوة على ذلك، يعكس الصراع تغيرا في موازين القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في الأزمة، حيث أظهرت تركيا دورا نشطا وفاعلا في دعم أذربيجان وتحقيق أهدافها الاستراتيجية في القوقاز، وتحدّيا للنفوذ الروسي والإيراني في المنطقة، والتي بدت محايدة أو مترددة في التدخل في الصراع، واكتفت بالوساطة والمراقبة، والتي لم تحقق نتائج مرضية للطرفين.

لذلك يعتقد مامادوف، أنه يمكن اعتبار الصراع بين تركيا وإيران في منطقة آسيا الوسطى بداية لصراع جديد، بل استمرار وتصعيد لصراع قديم ومعقّد، يعود إلى التاريخ الطويل والمضطرب بين الدولتين، والذي شهد حروبا ومعاهدات وتحالفات وتنافسات في مختلف العصور والمراحل، ويتجذّر هذا الصراع في الخلافات الدينية والقومية والثقافية و الجيوسياسية والجيو استراتيجية بين الدولتين، والتي تتجلى في مواقفهما ومصالحهما المتعارضة تجاه القضايا والأزمات في المنطقة، مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا وآسيا الوسطى والقوقاز.

الخاسر الأكبر في هذه المعركة هي روسيا التي تنشغل بغزوها لأوكرانيا، فخسرت الحفاظ على النفوذ في المنطقة، والتي تُعتبر جزءا من المنطقة الخاضعة للنفوذ الروسي، حيث تشكل حاجزا استراتيجيا بين روسيا وتركيا وإيران والصين، و تنافسها على النفوذ في المنطقة.

حسابات موسكو وبكين باتت مسألة صعبة، وقد تفقدان السيطرة عليها بسرعة كبيرة، خصوصا مع الترجيحات التي تقول إن كلّا من أذربيجان وأرمينيا ستطردان قوات حفظ السلام الروسية قريبا، والذي سيشعل حماس شركات النفط الغربية لخطوط الأنابيب البديلة، وتعزيز الخط البديل الذي سيصل الهند بأوروبا، وهنا الحديث عن عزل تام للصين وروسيا عن العالم الغربي برّا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات