بينما يعيش العالم وسط حالة من التدافع الدولي، الذي تسعى من خلاله روسيا إلى إعادة رسم النظام الدولي وفق ما تسميه نظام متعدد الأقطاب، مؤججة بذلك أكثر من ساحة صراع عالمي مباشر وغير مباشر، بدءا من أوكرانيا، وصولا إلى إفريقيا؛ يبدو أن الوقت لا يزال طويلا أمام تلك المحاولات، لاسيما مع ما تمتلكه الولايات المتحدة الأميركية كراع رسمي للسياسات الغربية، من خيارات مناورة عدة، بما فيها عمق النفوذ الروسي.

فبعد أن عملت موسكو التي ترزح تحت العقوبات الأميركية والأوروبية نتيجة غزوها لأوكرانيا، ومع ما تتعرض له من خسارات عسكرية ميدانية واقتصادية، يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية تعمل على مباغتة النظام الروسي، بنقل المواجهة إلى عمقه، وذلك بإعادة ضبط ميزان القوى في منطقة القوقاز المتكونة من الدول القومية السوفيتية سابقا، جورجيا، أرمينيا، وأذربيجان الاستراتيجية، ذات البعد الجيوبولتكي بالنسبة لموسكو.

واحدة من علامات التحول التي تقودها الولايات المتحدة بمواجهة موسكو، استعداد قوات حفظ السلام الأميركية في أرمينيا، لإجراء مناورات مشتركة تحت عنوان “إيغل بارتنر 2023” في مركز تدريب زار في أرمينيا الاثنين المقبل، لتستمر حتى 20 أيلول/سبتمبر الجاري، وذلك بالتزامن مع انتقادات العاصمة الأرمينية يريفان، لقوات حفظ السلام الروسية، لفشلها في الحفاظ على النظام في الطريق الرابط البري الوحيد بين أرمينيا وجيب “ناغورني كراباخ” المتمثل بـ “ممر لاتشين”، وهي المنطقة المتنازع عليها مع جارتها أذربيجان.

ما وراء تحركات الولايات المتحدة نحو أرمينيا

فالمناورات الأرمينية الأميركية تعد أحدث مؤشر على ابتعاد الجمهورية السوفياتية السابقة عن حليفتها التقليدية روسيا، على الرغم من أن روسيا تمتلك قاعدة عسكرية في أرمينيا وتعتبر نفسها القوة المهيمنة في منطقة جنوب القوقاز التي كانت حتى 1991 جزءا من “الاتحاد السوفياتي”، كما تحتفظ بقوات لحفظ السلام في المنطقة للتأكد من الالتزام بتنفيذ الاتفاق الذي أنهى الحرب بين أرمينيا وأذربيجان في 2020 وهي الثانية منذ انهيار “الاتحاد السوفياتي”.

إلى ذلك، تضع واشنطن نصب عينيها سحب ورقة النفوذ في المنطقة من يد موسكو، بهدف تعزيز حصار روسيا وتقليل فرص نشوء طريق بري يصلها بقواعدها البحرية في سوريا، وذلك بالإضافة إلى مواجهة خطة الصين التجارية الاستراتيجية، المتمثلة بإحياء “طريق الحرير” عبر المنطقة وصولا إلى أوروبا.

علاوة عن التقدم نحو منطقة وسط آسيا الاستراتيجية الغنية بالموارد والمهمة لكل من روسيا والصين وإيران وجنوب آسيا، بجانب تعزيز محاصرة إيران بالتزامن مع دخول عقوبات اقتصادية مشددة عليها حيز التنفيذ، وكذلك للتحكم في طرق عبور البضائع وموارد الطاقة إلى أوروبا وبالتالي التأثير على خيارات الأخيرة السياسية والتجارية.

كما تحاول الولايات المتحدة تفتيت ما يعرف بوحدة “أصدقاء روسيا”، واستمالة أرمينيا بوعدها بالانضمام إلى مظلة “حلف الناتو”، إذ إن واشنطن تدرك جيدا أن تغذية أي عداء بين حلفاء الأمس روسيا وأرمينيا، سيشعل الأجواء في منطقة القوقاز بشكل موسع، وهو ما يمثل بحسب مراقبين، ذكاء أميركي باستغلال نزاع متجدد – مستمر منذ أكثر من 30 عاما، بين يريفان وباكو لتهديد أمن القوقاز وخلق أزمات جديدة لموسكو في محيطها الإقليمي بزمن الحرب.

ذلك يأتي بينما تحاول روسيا التوسع في القارة الإفريقية بمحاولة للضغط على مناطق النفوذ الغربي الأوروبي، وعلى أمل أن يخفف ذلك عنها في الجبهة الأوكرانية، الأمر الذي يمثل انقلاب للمعادلة، بخاصة وأن فتح جبهة قلق سياسي لموسكو على الحدود الروسية سيؤرق إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ أن نجاح أميركا في استقطاب رجالات روسيا في المنطقة القوقازية سيعمل على تفتيت الكتلة السوفياتية التي يسعى بوتين لإحيائها مجددا.

أهداف الولايات المتحدة من التحرك بالقوقاز

فما تحاول الولايات المتحدة الأميركية تحقيقه من خلال المناورات المشتركة مع أرمينيا في عمق النفوذ الروسي، وفي منطقة صراع تضم قوات دولية، كما يرى الخبير الاستراتيجي علي الذهب، يأتي في سياق التأسيس لوجود أميركي مستقبلي في المنطقة، مبينا أن واشنطن لا تريد من خلال ذلك إرسال رسائل تهديد في الوقت الحالي بقدر ما تريد التأسيس له.

الولايات المتحدة الأميركية تستعد لإجراء مناورات مع أرمينيا/ إنترنت + وكالات

 الذهب وفي حديث لموقع “الحل نت”، أشار إلى أن الولايات المتحدة الأميركية، تعمل نظرا إلى أن أرمينا تمثل جزءا من قلب الأرض، حتى وإن لم تحمل قيمة استراتيجية بقدر ما تحمله أذربيجان، ففي الوقت الراهن تأثيرها محدود، إلا أن التوغل فيها يؤكد رغبة أميركية في وضع قدم على نقطه اقتراب من روسيا أو من جدار أمنها القومي.

بناء على ذلك، أكد الذهب، فإن هذه التحركات الأميركية في أرمينيا، ستقلق النظام الروسي، وتمثل خلطا للحسابات، لاسيما وأن واشنطن بدأت علميا في تفكيك خصومها في مناطق العالم، بالتزامن مع المحاولات الروسية في نقل الصراع من منطقة البحر الأسود أو من الحدود الروسية إلى إفريقيا، ففي ظل هذه المحاولات الروسية تعمل الإدارة الأميركية على عكس المعادلة من خلال الاقتراب من الحدود الروسية عبر أرمينيا.

بالإضافة إلى تلك الرسائل التي تحملها التحركات الأميركية في أرمينا، لفت الذهب، إلى أن واشنطن تسعى من خلال أرمينيا الاقتراب من بحر قزوين، بهدف تطويق إيران، بالتزامن مع تعزيز قواتها من الجنوب في بحر العرب أو الخليج العربي، بالتالي أن هذا يثمل أيضا محاولة لوضع إيران التي تتحسس من أي اقتراب أميركي، في حدود معينة.

الخبير الاستراتيجي أردف، أنه في نهاية المطاف الهدف من كل تلك التحركات، ليست نقل المواجهة إلى العمق الروسي فحسب، بل قد تفضي إلى تهديد إيران أيضا، وهو ما تحاول الولايات المتحدة الأميركية فعله إلى جانب خلق قلق لروسيا وفتح جبهات تهديد عدة تشتت من خلالها قوات وإمكانيات روسيا السياسية والعسكرية والاقتصادية، مع تعزيز قدرات أرمينيا.

القوقاز وميزان القوى

فتعزيز قدرات أرمينيا يعني خلق تهديد لروسيا، لما قد يمثله من اختلال لميزان التوازن من شأنه أن يولد ردود أفعال عنيفة مستقبليا، بخاصة وأن أرمينيا في آخر مواجهة عسكرية لها تكبدت خسائر كبيرة بمواجهة أذربيجان، بالتالي أن هذا قد يقود إلى إعادة النظر بإمكانياتها.

الحدود الأرمينية الأذرية/ إنترنت + وكالات

الاهتمام الأميركي بمنطقة القوقاز برز منذ العام 2018، من خلال جولة رفيعة المستوى، أعقبتها تصريحات مثيرة، بالتزامن مع تطورات سياسية واقتصادية في المنطقة؛ وهي كلها عناصر أشارت إلى ارتفاع رصيد الاهتمام بجنوب القوقاز في أروقة صنع القرار بواشنطن.

بحسب تقارير، تراهن واشنطن من خلال تحركاتها الأخيرة في القوقاز بانتزاع ورقة ضغط على روسيا، والقضاء على أي فرصة لنشوء طريق بري يصلها بقواعدها البحرية في سوريا، وضم المنطقة إلى منظومة حلف شمال الأطلسي “ناتو”، التي تحاصر موسكو في أوروبا غربا وأفغانستان شرقا.

كما يتيح التموقع في المنطقة تعزيز قدرة واشنطن على مواجهة الصين التي تسعى لانتزاع الهيمنة الدولية، وبالإضافة إلى ذلك فإن نجاح هذه التحركات الأميركية في تحقيق ذلك الاختراق للمنطقة؛ سيمثل فرصة مهمة للانتقال شرقا نحو وسط آسيا، وإحكام السيطرة على قلب أوراسيا، وهو ما يعني، إحكام محاصرة كل من روسيا والصين وإيران.

الجدير بالذكر، إن تحركات واشنطن هذه في أرمينيا من شأن أن يحفز سباقا مع أذربيجان، حيث ستسعى كل من الدولتين العدوتين، إلى الحصول على أكبر دعم أميركي، بما يضمن أمنها ويجنبها أي سيناريوهات سلبة، وهو ما قد يسهل بالتالي اختراق الولايات المتحدة للمنطقة، ومع أنه من الصعب سيكون على الولايات المتحدة سحب البساط بهذه السرعة من تحت أقدام موسكو في المنطقة، ولكنها بالتأكيد تسعى إلى ذلك وتتلقط الفرص.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات