بعد سنوات من ما يمكن وصفه بالانغلاق السياسي والاقتصادي الذي عاشه العراق منذ ما بعد 2003، نتيجة المواقف السياسية والتأثيرات الخارجية التي وضعته في حدود معينة، أدت لعزله بشكل شبه كامل عن محيطه العربي، وحصر تعاملاته مع إيران؛ يبدو أن رحلة بغداد التي بدأت تتكشف معالمها منذ العام 2020 نحو الاندماج مجددا في المحيط العربي، لا تزال تؤتي أوكلها، حيث تشهد العلاقات العراقية الإماراتية مرحلة جديدة من الازدهار، بما يضع مصالح البلدين في مقدمة أولوياتهما. هذا ما حملته زيارة وزير الدولة الإماراتي لبغداد من رسائل.

العراق أكد الانفتاح على الإمارات، حيث قال رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، إن بلاده منفتحة على الشركات ورجال الأعمال الإماراتيين للعمل داخل العراق، وذلك خلال استقباله وزير الدولة الإماراتي خليفة شاهين المرر، الذي كان قد وصل إلى بغداد الثلاثاء الماضي، في زيارة رسمية، التقى خلالها وزير الخارجية العراقي، نائب رئيس مجلس الوزراء، فؤاد حسين، أيضا.

الأمر الذي مثّل عودة لبغداد إلى دائرة محيطها العربي، بعد أن استمرت لأكثر من عقد ونصف بعيدةً عن كل فعاليات الجوار، بما تركها تعيش تحت مظلة إيران طيلة تلك السنوات، لكن ومع الانفتاح الذي شهده العراق مؤخرا على جيرانه، عبّرت الحكومة العراقية عن حرصها على تطوير العلاقات مع الإمارات بجميع المجالات، ولاسيما المتعلق منها بالجانب الاقتصادي والاستثماري والتنموي، ضمن سياسة الانفتاح الاقتصادي على المنطقة.

منهاج عراقي متكامل

حكومة بغداد، تؤكد رسم منهاجا متكاملا لتطوير القطاعات الأساسية في البلد، وتسعى لتوفير بيئة استثمارية آمنة، باعتبار أن العراق بات يمثّل اليوم وجهة استثمارية واعدة، لذلك تبدي اهتماما كبيرا بإقامة أفضل العلاقات مع الإمارات، في وقت تتجه فيه بغداد إلى إعادة شغل حجمها الطبيعي في المنطقة، بعد أن أدت سياسة الانعزال التي فرضتها التدخلات الإيرانية لتحجيم دورها.

وزير الخارجية العراق فؤاد حسين مع وزير الدولة الإماراتي خليفة شاهين المرر/ إنترنت + وكالات

من جهته، أكد الوزير الإماراتي، أن توجهات بلاده تتمثل بتعزيز الشراكة مع العراق، ودعمه في كل ما يُسهم في تحقيق تنميته واستقراره، معربا عن الرغبة “الجادة” في المشاركة بمشروع طريق التنمية الذي يعتزم العراق إنجازه، والذي يربطه بأوروبا عبر تركيا، حيث استعرض الجانبان الفرص الاقتصادية والاستثمارية التي يتيحها هذا المشروع وانعكاساته الإيجابية المستقبلية على اقتصاد العراق ودول المنطقة.

على مدار العقد الماضي، وخصوصا خلال العام 2019، شهد العالم مرحلة جديدة من التدافعات الدولية، فيما يتعلق بالتنافس الأميركي الروسي الصيني، فضلا عن مماحكات دول الشرق الأوسط، مثل الصراع الخليجي الإيراني، والإيراني التركي من جهة، وغيرها العديد من الجبهات التي جعلت من العراق قِبلة تتسابق عليها القوى الإقليمية والدولية للتنفيس عن ضغوطاتها، أو لاستخدامه كورقة للضغط على خصومهم في ساحات النفوذ.

بالتالي انعكس ذلك على العراق بالدرجة الأولى، إلا أن هذه المرة بالشكل الإيجابي لتختلف الصورة السلبية لبلاد الرافدين التي اكتسبها طيلة العقدين الماضيين من التدخلات الخارجية وانصياع القوى الداخلية للولاءات الإقليمية، وفسحت أمام بغداد المجال لتنويع علاقاتها وشراكاته بما يضمن لها مصالحها، لكن لا يمكن التأكد إذا ما ستستمر بغداد في هذه السياسية أم لا.

بغداد عادت لتشغل مساحتها الطبيعية، خصوصا خلال عامي 2020-2022، وتلعب دورا إقليميا بارزا، الأمر الذي حفز العديد من القوى العربية في الشرق الأوسط مثل مصر والإمارات والسعودية والأردن، لتبادر في الثلث الأخير من العام 2020 والثلث الأول من عام 2021، بالانفتاح على بغداد، ما تجلى في انعقاد قمم على مستوى القيادات السياسية العليا بين البلدان.

بالإضافة إلى تنظيم زيارات متبادلة لتدعيم العلاقات الأمنية والمصالح الاقتصادية والتفاهمات في مجال الطاقة، وذلك بموازاة اهتمامٍ من قبل القوى الدولية وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا بما يجري في العراق، داخليا وخارجيا. الأمر الذي شكّل محورا أساسيا في رسم السياسات الخارجية.

انفتاح متبادل بين العراق والإمارات

في هذا الصدد، يقول الخبير الاقتصادي نبيل جبار التميمي، إن المواقف العربية العازلة للعراق بدأت تتغير منذ ما يقارب من 6 أعوام، وكانت المملكة السعودية على رأس الدول العربية التي بدأت بتغيير سياساتها تجاه العراق منذ حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، بالمقابل بدأ العراق راغبا في تحسين العلاقات مع المحيط العربي وتخفيف الخطابات المتشنجة تجاه البلدان العربية، وإجراء زيارات متبادلة بين مسؤولين عراقيين وعقد اتفاقيات مختلفة.

رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني يستقبل وزير الدولة الإماراتي والوفد المرافق له/ إنترنت + وكالات

سمح ذلك، بحسب التميمي الذي تحدث لموقع “الحل نت”، لكل الأطراف بتعزيز حضورها في العراق، بما في ذلك المحور الإقليمي القطري التركي، الذي عمل على تأكيد وجوده وتوسيع علاقاته مع بغداد، مستندة بذلك وبالدرجة الأولى على المصالح الاقتصادية، غير أن طبيعة التحرك السعودي الإماراتي السياسي نحو العراق بقي هو الأوسع رغم محدودية التحرك التجاري والاستثماري.

بناء على ذلك، أكد التميمي، أن العراق وجد ضمن دائرة القوى السياسية في الانفتاح على المحيط العربي فوائد ومكاسب كثيرة، كما أنه أدرك عدم وجود مبررات لاتخاذ مواقف متشنّجة تجاه الدول العربية مبنية على أساس المواقف الإيرانية تجاه تلك الدول، الأمر الذي ساعده بتسويق فكرة أن يكون العراق محايدا تجاه الصراعات الخليجية الإيرانية، والتي بدأت تلك السياسات بشكل واضح خلال فترة حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي التي بدأت منذ عام 2020، واستمرت بعد ذلك.

بدوره، يقول الناشط والمحلل السياسي عمر فاروق الطائي في حديث مع “الحل نت”، إن الإمارات دولة مؤسسات تملك رؤية دقيقة، وكل تحرك أو زيارة أو تصريح محسوب لديهم لما له ولما عليه، مؤكدا أن زيارة وزير الدولة الإماراتي للعراق تمهّد لشراكات اقتصادية عملاقة، بل لشراكات سياسية واجتماعية في الشرق الأوسط، بحسب قوله.

إلى ذلك، يبيّن المحلل السياسي العراقي، أن الإمارات راغبة بدعم العراق كدولة، بعيداً عن من يكون صاحب النفوذ الأكبر من أحزاب سياسية في البلاد، مردفا أن الإمارات دولة ذات تأثير دولي كبير، والشراكة والتحالف معها ستنفع بغداد بدعم العديد من مواقفه الدولية والإقليمية من قبل أبو ظبي.

وبشأن إمكانية دوران عجلة العراق السياسية نحو محيطه العربي بدلا من طهران، يشير الطائي، إلى أن إيران لا تزال فاعلة ودخول أي دولة للعراق كانت عربية أو غربية سيتم عرقلته من قبل وكلاء إيران ما لم يتم التوصل إلى مساحات وسطى تحفظ مصالح الجميع. 

أبعاد ثقافية واجتماعية

في نهاية حديثه، لفت الطائي، إلى أن علاقة بغداد مع أبو ظبي، ليست علاقة ذات بُعد اقتصادي، بل هي علاقة ذات بُعد إعلامي وثقافي واجتماعي، فالتشابه كبير بين الشعبين، خاصة وأن الإمارات تمثل المحافظة على القيم الفكرية الأصيلة التي تمثل هوية بلدان الشرق الأوسط مع مواكبة الحداثة والتطور والانفتاح الحاصل في العالم.

رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلوبسي يستقبل وزير الدولة الإماراتي خليفة شاهين المرر/ إنترنت + وكالات

 في السياق، تعمل الحكومة العراقية على تسريع وتيرة الاستثمارات الأجنبية بما في ذلك الدعم السعودي والخليجي في مجالات الطاقة والزراعة، باتجاه تعميق العلاقات الاقتصادية مع دول الخليج، في حين خصصت كلّ من السعودية والإمارات 6 مليارات دولار لدعم أنشطتهم التجارية والاستثمارية داخل العراق، لدعم عملياتها التشغيلية سواء أكانت استثمارية أم تجارية.

في تموز/يوليو الماضي، أعلن “اتحاد الغرف التجارية” العراقية، أنه تمّ التوصل لاتفاق مع الدولتين لتشكيل مجالس أعمال، حسبما ذكرت وكالة الأنباء العراقية “واع”، ويسعى العراق الذي يسعى لاستغلال موقعه الجغرافي لمواكبة مسيرة التجارة العالمية؛ إلى الاستفادة من موقعه الجغرافي الذي يمنحه أهمية كبيرة في التجارة العالمية خاصة فيما يتعلق بمسارات التجارة من أوروبا إلى آسيا والعكس.

فيما أجرى المسؤلون في البلدين لقاءات متتالية في الفترة الماضية لبحث جملة من القضايا الاقتصادية المشتركة، خاصة المتعلق منها بالطاقة باعتبارها قطاعا مهما وحيويا، وما يتضمنه من صناعات واستثمارات مستقبلية.

في أيار/مايو الماضي، كان السوداني قد التقى في مدينة جدة السعودية، نائب رئيس دولة الإمارات، الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، على هامش القمة العربية الـ 32، وأوضح أن الجانبين بحثا العلاقات الثنائية بين الدولتين، وسُبل تعزيز التعاون المتبادل وترسيخه في مختلف المجالات، وهو ما يراه مراقبون، أنها الخطوة التي تمثل منطلقا للعلاقات البلدين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة